إدريس لكريني

تشير العديد من التقارير والدراسات العلمية إلى أن حقل التعليم في المنطقة المغاربية يعرف الكثير من الصعوبات والإشكالات؛ تعكسه تلك الهوّة الساحقة التي أضحت تفصل البحث العلمي والتعليم بدول المنطقة عن مثيلاتها في الدول المتقدمة التي راهنت على الاستثمار في هذه المجالات الحيوية.

فالجامعات المغاربية تعيش في مجملها حالة من التردّي على مستوى المناهج، والمضامين، والمخرجات، حيث تحوّلت هذه المؤسسات من منارة للفكر وإنتاج المعرفة إلى قنوات للتلقين، وتفريخ العاطلين عن العمل؛ إضافة إلى عدم الانفتاح بصورة كافية على التكنولوجيا الحديثة؛ وغياب استراتيجية تعليمية واضحة المعالم؛ يعكسها البون الشاسع بين هذه الجامعات ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي، فيما يتمّ إهمال مخرجاتها من قبل صانعي القرارات.

ولا تتوقف هذه الإشكالات على المستوى الموضوعي؛ بما يعنيه ذلك من قلة الإمكانات المرصودة لهذا القطاع المعني بالاستثمار في الإنسان، سواء من قبل الدولة، أو من القطاع الخاص، وهشاشة المنظومة القانونية الداعمة للحرية الأكاديمية وتطوير منظومة التعليم بشكل عام، بل تتجاوز ذلك إلى أزمات ذاتية تتّصل بمعاناة هيئة التدريس نفسها من غياب التكوين المستمر؛ والافتقاد إلى ثقافة عمل الفريق، وتدني نسبة إسهامات الباحثين على مستوى التأليف والنشر والترجمة، وتفشي مظاهر من السلوكات المسيئة لأخلاقيات البحث العلمي. كل هذه العوامل مجتمعة تدفع الكثير من الكفاءات التعليمية للهجرة إلى الخارج بحثاً عن فضاءات وظروف أفضل، وتجعل مختلف الجامعات العربية تتموقع في مراكز متخلّفة ضمن تصنيف الجامعات الدولية.

بدأ الحديث عن الجودة في التدبير خلال سنوات الثمانينات من القرن الماضي في عدد من الدول الغربية مع التحولات التي فرضتها العولمة، وتزايد حدة التنافسية الاقتصادية والتجارية، قبل أن ينتقل الأمر إلى التعليم كقطاع حيوي تطرح فيه هذه الميزة بشكل ملحّ.

إن الجودة هي رهان ومطمح يضمن تحقيق الحوكمة؛ فهي (الجودة) تحيل إلى اعتماد مجموعة من المعايير والتدابير والاجتهادات الداعمة لاستثمار مختلف الإمكانات البشرية والتقنية والمالية، المتاحة بصورة ذكية في سبيل تحقيق الأهداف وتطوير المؤسسات بشكل جيد ويستجيب للحاجات المطروحة في مختلف المجالات..

فالجودة المنشودة تروم اعتماد استراتيجيات ومداخل تسمح بتطوير منظومة التعليم وتحقيق أهدافها على مستوى تشجيع الإبداع واعتماد التحفيز وترسيخ التنشئة وتعزيز الوعي داخل المجتمع ودعم مسارات التنمية..

إن حيوية التعليم تطرح أهمية اعتماد إصلاحات جدّية واستراتيجية، تروم انفتاح هذا القطاع على قضايا المجتمع الحقيقية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق في غياب عنصر الجودة وضمان المردودية في هذا الشأن..

لا يمكن لجودة التعليم أن تتحقق إلا في إطار شمولي يستحضر مختلف الجوانب في هذا الشأن، سواء تعلق الأمر بجودة البنيات التحتية أو المناهج والبرامج التعليمية والكفاءات العلمية والإدارية، واستثمارها بشكل فعال وبنّاء.. علاوة على توخّي المرونة في التدبير، وبناء علاقات إنسانية راقية بين مختلف مكونات هذا القطاع، واستحضار التجارب الدولية الرائدة في هذا الشأن..

وعلاقة بهذا الموضوع؛ نظمت أخيراً جمعية البحوث والدراسات من أجل اتحاد المغرب العربي وبمساهمة مؤسسة «هانس سايدل»، الملتقى المغاربي الثاني حول «جودة التعليم بالمغرب العربي الكبير.. التحديات والرهانات».

تطرق المشاركون في هذا اللقاء العلمي الذي انعقد بتونس إلى مجموعة من القضايا؛ في ارتباطها بتشريح واقع التعليم في المنطقة المغاربية، من حيث إمكاناته وإكراهاته؛ كما تمّ تناول مفهوم الجودة في سياقها المغاربي والمقارن؛ وكذا عناصر هذه الجودة على مستوى البرامج والاستراتيجيات والإمكانات والمقومات.. وتناولت بعض المداخلات تجارب دول رائدة في هذا الخصوص (تجارب بعض الدول الإسكندنافية)..

وأجمع المشاركون على أن تحقّق الجودة يقتضي النظر إليها من منظور شمولي يتجاوز المقاربات السطحية والانتقائية أو الاستعجالية، إلى مقاربات استراتيجية تقوم على التخطيط واستحضار الفاعلين في هذا الحقل على مستوى بلورة السياسات العمومية في قطاع التعليم، واعتماد سبل متطوّرة ومحفّزة على الإبداع؛ وتبنّي آليات التقييم والمواكبة للبرامج والاستراتيجيات المتخذة، كما تم التأكيد على أهمية توخّي الكفاءة العلمية العالية لولوج المهام المتصلة بهذا الحقل النبيل، مع نهج التكوين المستمر لهذه الكفاءات.. 

فيما اعتبر بعض المتدخلين أن تحقيق الجودة يظل مشروطاً بضمان استقلالية المؤسسات التعليمية وتوخي الحرية الأكاديمية المحفزة على الاجتهاد والعطاء؛ وتخليقها على مستوى توخّي الأمانة العلمية وأخلاقيات البحث العلمي.. 

وقد تمخضت عن هذا الملتقى الذي شارك فيه عدد كبير من الباحثين والخبراء من المغرب وتونس وليبيا والجزائر؛ مجموعة من التوصيات، التي دعا من خلالها المشاركون إلى إيلاء الاهتمام للبحث العلمي في ارتباطه بقضايا الدول المغاربية، وبالمداخل الداعمة لتحقيق التنمية الشاملة في المنطقة، كما تم التأكيد على ضرورة الاستئناس بالتجارب الدولية الرائدة في البلدان المتقدمة كمدخل لتجويد العملية التعليمية، علاوة على رسم أولويات البحث بالتنسيق مع القطاعات الوزارية المعنية لمواكبة المشاريع الكبرى، وإيجاد الآليات والسبل الفعالة الكفيلة بربط المؤسسات التعليمية بمحيطها السوسيو - اقتصادي.

وطالب المشاركون أيضاً بإحداث مرصد مغاربي يعنى بجودة التعليم، كما دعوا المشرفين على قطاعات التربية والتعليم والبحث العلمي في البلدان المغاربية إلى عقد لقاءات ومشاورات رسمية لوضع رؤية استشرافية في هذا الصدد تمتد لعام 2030.