أمين ساعاتي

في الأسبوع الماضي فقدت الصحافة السعودية واحدا من رموزها الكبار وهو تركي بن عبد الله السديري. ورغم أنه كان يتمتع بالكثير من الخصال الحميدة إلا أنه كان حريصا على بناء شبكة من العلاقات مع زملاء المهنة في كل الصحف السعودية وليس في صحيفة الرياض فحسب، ولذلك حينما قررت الحكومة إنشاء هيئة للصحافيين السعوديين لم يجد صعوبة في الحصول على الإجماع ليتولى رئاسة أول هيئة للصحافيين السعوديين. ولقد جمعتني زمالة طويلة وثرية بأخي العزيز تركي السديري منذ أن بدأنا ـ في الستينيات الميلادية ـ نعمل في الصحافة، ولقد بدأنا حياتنا الصحافية في الصعيد الرياضي، فكان تركي السديري نائبا لرئيس نادي الهلال ورئيسا للقسم الرياضي بجريدة الرياض، وكنت لاعبا في نادي الاتحاد ثم رئيسا للقسم الرياضي في جريدة عكاظ، وكنا نلتقي كثيرا بين كواليس الملاعب والأندية والصحافة، وكنا نتبادل الآراء حول الأداء الإداري لمجالس إدارت الأندية وندلي بدلونا في كل الشؤون الرياضية والصحافية، وبعد ذلك جمعتني بالصديق مناسبات عديدة على صعيد الصحافة، فهو قد قفز إلى سدة رئاسة التحرير، وأنا قد نقلت إلى وظيفة مدير تحرير عكاظ ثم نائبا لرئيس تحريرها وكلانا عضو في مؤسسته الصحافية. وفي عام 1974 عين رئيسا للتحرير، ومنذ تعيينه في منصب رئيس التحرير سرعان ما انتشر في شرايين الصحيفة وبدأ مرحلة إعادة البناء، وكلنا نعرف أنه تسلم صحيفة الرياض وكانت الصحيفة تناهج وهي في الصف الأخير بين صحفنا المحلية، واستطاع تركي مع فريق العمل الذي زامله في ذلك الوقت أن ينقل صحيفة الرياض إلى الصفوف الأولى، وحينما نقرأ جريدة الرياض نرى تركي السديري في كل أركانها وأبوابها وأعمدتها، ولكن ـ مع ذلك ـ يبهرك التنوع في جريدة الرياض، لا يمكن أن تقول إن تركي السديري جاء من عجينة الرياضة، بل تقول إنه جاء من كل ثقافات السعوديين لأنه أضاف إلى السياسة وأضاف إلى الأدب وأضاف إلى الاقتصاد وأضاف إلى الفن بمثل ما أضاف إلى الرياضة وأكثر، إن تركي السديري يبدو كأنه رجل مزدحم، ولكن سرعان ما نكتشف أنه مزدحم بالخصال الحميدة، علاقاته خضراء وحياته خضراء ومشاريعه خضراء، فهو من وطن أخضر من الوريد إلى الوريد، ورغم أن الطيبة تطبق عليه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه..

 

إلا أن قلمه لا يرتعش أمام الملمات، بل يظل ينحت في مشاكل الناس حتى بلوغ الصخر. ومن أجمل الذكريات التي جمعتني مع الزميل العزيز تركي السديري التي أبوح بها لأول مرة، هي أن المصادفة شاءت أن تجمعنا معا في طائرة واحدة متجهين إلى المغرب بدعوة كريمة من الحكومة المغربية لتغطية المسيرة الخضراء التي نظمتها الحكومة المغربية لاستعادة الصحراء المغربية من الاحتلال الأسباني إلى التراب المغربي، وكانت الرحلة طويلة ومملة بدأت من الرياض ثم جدة متجهة إلى القاهرة ثم بيروت فالمغرب، وكان هذا "الأوتوبيس" الطائر يحمل من كل بلد مجموعة من الصحافيين وحملة الأقلام، وحينما وصلنا الرباط كان التعب قد "هد حيلنا"، ولكن الزميل تركي كان في ريعان شبابه ونضارته، وسألني أين تريدنا أن نتناول العشاء، فالتفت إليه وقلت: هل تقصد أننا نتناول العشاء خارج الفندق، قال طبعا، وأحسست في نبرته بأنه يدعوني بإصرار أن نتناول معا طعام العشاء خارج الفندق وفي مكان على درجة عالية من الفانتازيا، ولم أملك إلا أن ألبي الدعوة، وفي المطعم الفانتازيا كان تركي كريما جدا، فذكّرته بأن الحفل الذي سيلقي فيه الملك الحسن خطابه غدا سوف يبدأ في الساعة التاسعة صباحا، فقال هناك متسع كبير من الوقت، وبعد أن تناولنا طعام العشاء واستمتعنا بالموسيقى المغربية الحالمة عدنا إلى الفندق، وكان الوقت ما زال مبكرا ولكن كنا مكدودين من السفر، ومما زاد الطين بلة أن فرق التوقيت بين الرياض والرباط لم يكن في مصلحتنا، فزحفت الساعة إلى ما بعد التاسعة صباحا، وصحوت مذعورا واتجهت بسرعة إلى التلفزيون وفتحته كي أتعرف على الوقت، ولجمتني المفاجأة، فقد رأيت الملك الحسن يلقي خطابه مفتتحا حفل المسيرة الخضراء، فأسرعت على التليفون أهاتف الزميل تركي، وحينما عرف أن الوقت قد ذهب بنا خارج الموعد نهض من سريره مذعورا، وقال لا وقت للذهاب إلى الحفل لنتابع الحفل من التلفاز ونكتب مشاهداتنا وربما يتيح التليفزيون لنا فرصة للتغطية أفضل من وجودنا في الحفل. قبل فترة وجيزة كنت أحضر مناسبة في فندق هيلتون على ضفاف خور أبحر فقابلت الصديق العزيز بعد غياب طويل فبادرني قائلا: تتذكر يوم المسيرة الخضراء الذي قطعنا آلاف الأميال من أجل أن نحضر مراسم حفلها ولكننا لم نحضر الحفل، قلت أما زلت تتذكر رغم مرور عقدين من الزمان؟! إن تركي معجون بنفس مليئة بالأريحية والعطاء، ودعوني أقول للقارئ العزيز إنك لن تعرف تركي السديري إلاّ إذا اقتربت منه، أمّا المعرفة ذات المسافات فإنها تجعلك على مسافات من معرفته.