سمير عطا الله

 فكرت كثيراً في الآونة الأخيرة بالأخ العزيز ابن خلدون. عالم الاجتماع الكبير، والقاضي الشهير، والتونسي الذي لم يترك سعياً في المشرق والمغرب إلا وسعاه، ومنصباً قانونياً إلا وشغله، ووالياً سيء الحظ إلا وصادقه لينتقل إلى والٍ آخر.
وأما سبب التفكير في العالم العزيز فسببان: الأول أنني لا أكاد أقرأ دراسة في الغرب، إلا ويزينها صاحبها بفكرة أو لمعة منه. ولو كان شاعراً وصاحب طرائف، لغرفوا منه ربما ما غرفوه من شكسبير من أجل رش الملح والبهار على الطعام وإغناء طعمه.
وأما السبب الثاني، فنظرية ابن خلدون الشائعة بأن الإنسان ابن الطقس: يخف مزاجه في المناخ الحار، فتخف روحه. ويلاحظ قاضينا الذي تمتع بالحياة في مصر، أن ميل المصريين إلى الظرف والدعابة، عائد إلى دفء المكان. وكما يلاحظ - وكم هو على حق – أن المناخ البارد يبيض الجلود ويُقبض النفوس ويُعلّ الأمزجة.
تذكرته وأنا أقرأ نشرة الطقس في باريس منذ صعود مايو (أيار) إلى الرزنامة. كل يوم آمل أن يكون الطقس، على الأقل، غير ماطر بحيث أتمكن من المشي على ضفاف البحيرة في غابة بولونيا. غائم، لا يهم. سماء باريس الرمادية، فلتكن. برد وأخطار الزكام، أمرنا لله. لكن هل الإضافة المطرية ضرورية؟ هل امتحان آخر لنظرية ابن خلدون؟
لا. منذ دخول مايو (إيار) وهو امتحان لعلاقتنا الشخصية بتأثر الإنسان بالطقس. وكلما شكوت إلى أحد من تأخر الشتاء في الأفول وبلادة الربيع في الوصول، كان الجواب واحداً، وهو أن معدل الأمطار هذه السنة كان ضئيلاً، وكل مطرة إضافية خير وبركة.
يا سيدي على رأسي. ألا يمكن أن يؤجل هذا التصحيح في الميزان السنوي إلى يونيو (حزيران) المقبل؟ لا يمكن. كل يوم يخرج علينا صاحبك ابن خلدون بمطالعة وزخة مطر. وميزان الحرارة يرافق، طوعاً أو مسايرة، ميزان الهطول. فبقيت الحرارة دون الرابعة عشرة. وعندما كانت ترتفع إلى السابعة عشرة كنا نقول صحيح إن الربيع لن يمر هذه السنة بباريس، ولا بغابة بولونيا، لكن الصيف لن يكذب خبراً.
عندما رأيت أن ميزان الحرارة ماضٍ في الهبوط وميزان الانقباض ماضٍ معه، لم يبقَ إلا البحث عن الحل عند ابن خلدون: «المناخ المعتدل» في بيروت، حيث الفصول صادقة بقدر ما هي السياسة كذب وخداع. وأما قوله، رحمه الله، بأن البرد أفضل من الحر، فقد تركناه له مع الشكر على ضفاف البحيرة، حيث يرتجف البط من البرد، وتبحث العصافير عن الدفء على الرزنامة..