رضوان السيد

سيطر عليَّ التهيُّب والروع عندما بدأ الأميركيون يقولون عشية الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 إنّ «القاعدة» (قاعدة أُسامة بن لادن) هي التي قامت بغزوة نيويورك (!). فقد تذكرتُ فوراً ماذا حدث عام 1941 عندما هاجم اليابانيون المراكز العسكرية الأميركية في «بيرل هاربور» بجزر هاواي. فإلى جانب الانضمام إلى الأوروبيين والروس في حربهم على النازية، قاتل الأميركيون اليابان حليفة هتلر وموسوليني في سائر شرق آسيا، وما قبلوا استعداد اليابان للاستسلام إلاّ بعد أن جربوا على اليابانيين سلاحهم الذري الجديد، ومرتين على هيروشيما وعلى ناكازاكي!

على أنّ الذي كان ينبغي أن يروِّعنا بالقدر نفسه حدث قبل ذلك بمدة، وهو قتل تنظيم الجهاد للرئيس أنور السادات عام 1981. وقتل رئيس دولة هو جريمةٌ سياسيةٌ موصوفة. لكن لو تأملنا أسباب القتل التي ذكرها المجرمون أثناء محاكمتهم، لوجدنا أنّ ارتكابات الرئيس السادات في نظر هؤلاء هي ارتكاباتٌ اعتقاديةٌ وليست سياسية. 

وحتى عندما ذكروا أنّ من أسباب قتلهم للرئيس السادات الصلح مع إسرائيل؛ فإنّ ذلك جاء آخِراً وأتت قبله أسباب وعللٌ مروِّعة مثل أن امرأته تكشف شعرها، وأنها سعت لتغيير قانون الأحوال الشخصية بما يخالف الشريعة، وأنّ الرئيس يشرب ويدخّن الغليون، ويحكم بالقوانين العلمانية... إلخ. وهذه الارتكابات كلها كبائر مكفِّرة. ولذلك فإنهم في هذا الفعل السياسي، عادةً لم يكونوا ينظرون إليه بهذا المنظار؛ بل بأنّ الرجل مُرتدٌّ ولذلك وجب قتله! 

وبعد قتل الرئيس مباشرةً تقريباً ذهبوا إلى أفغانستان للجهاد في حروبها، وبدأت القصة الطويلة والهائلة والتي أدت إلى خراب البلدان والعمران وهلاك ملايين الناس على أيدي القاعديين والداعشيين والأميركيين والروس والإيرانيين، ولستُ أدري «مين ولاّ مين» إذ ما بقي أحد في العالم إلاّ وبلّ يده، كما يقول المثل، في دمائنا وأعراضنا وديارنا (!).

لقد كان علينا أن ندرك أنّ انشقاقاً حصل في ديننا، منذ بدأت أعمال العنف بالداخل في السبعينات من القرن الماضي. وقد اعتبرتُ وقتها أنّ هذا العنف وإن يكن باسم الدين، فهو عنفٌ سياسي مثل عنف اليسار المتطرف في أوروبا أو يقاربه. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق، فهو عنفٌ اعتقادي وشعائري ناجمٌ عن تحويلات عقائدية وسلوكية عبر خمسين عاماً وأكثر، فيما عُرف بحقبة أو زمن الصحوة. ومنذ القديم نعرف أنّ الفِرَق الدينية تتشكل عندنا وعند غيرنا من أهل الديانات نتيجة الافتراق في الاعتقادات والسلوك عند الأكثرية أو السواد الأعظم أو الجماعة أو الأرثوذكسية. 

وقد قال إرنست غلنر إنه في سائر الأديان فإنَّ الانشقاق يكون همُّه التحرر من بعض العقائد والشعائر المتشددة إلاّ في الإسلام السني؛ فإنّ الانشقاقات عنه، والانشقاقات بعامةٍ في سياقه تقصد إلى التشدد، باعتبار أنّ اعتقادات أهل السنة التاريخيين وتقاليدهم ليست ملتزمةً بالدين كما ينبغي! وهذا التشدد قد يستدعي عنفاً من طريق تضييق مفهوم الإيمان، ومن طريق النزوع الحروفي في فهم النصوص، ومن طريق التزود بوعي جديد بمتطلبات الدين التي لا تنفد، ومن طريق الإقصاء والإخراج للغير المتهاون بحيث لا تبقى مع هذا النزوع الطهوري بداخل الدين غير قلةٍ قليلة (!). 

ولأنّ الإحيائي «الجهادي» هذا يعتبر نفسه بديلاً أوحد للإسلام القائم؛ فإنّ «جماعة المسلمين» هي عدوه الأول؛ لأنه يريد الحلول محلها. وهذا لا يعني أن «العدوَّ الأصلي والبعيد» ليس مهماً. لكنْ لا بُدَّ من دارٍ للانطلاق منها، وينبغي أن تسودها الشرعية، ولذلك يجب ضرب «العدو القريب» أيضاً وأيضاً!

منذ عام 2003 - 2004 وعلى مشارف الغزو الأميركي للعراق وبعده، دخل الأميركيون مع الإيرانيين في شراكةٍ عملية لمكافحة الإرهاب السني. ولا يزال الأمر على هذا النحو في العراق، إذ يقاتل الأميركيون مع الجيش العراقي، ويقاتلون مع الحشد الشعبي ودائماً ضد الإرهاب، وهو اليوم «داعش». وبهذه الحجة سيطر الإيرانيون في العراق بالمشاركة مع الأميركيين، ثم سيطروا بعد خروجهم بمفردهم. ودخلوا إلى سوريا عام 2013 دون أن ينبس الأميركيون ببنت شفة، ثم شاركوا الروس ولا يزالون والشعار دائماً مقاتلة التكفيريين والإرهابيين وحماية مزارات آل البيت!

إنّ هذا الموقف الصعب للمجتمعات العربية والإسلامية والدول بين الأميركيين والإيرانيين والدول الكبرى الأخرى، ما أمكن الخلاص منه بأي عذر، وبخاصة أيام أوباما. وما اكتفى أوباما بالإهمال والانسحاب. بل، وكما رأينا، وهو على مشارف مغادرته الرئاسة يجري مقابلةً مع مجلة أتلانتيك، تظهر فيها هذه الصورة الشوهاء: الإسلام العنيف هو الذي غيّر المجتمعات، وخطف الدين، والدول ما قاتلته بجديةٍ إلاّ مؤخراً، ويكون على المسلمين مجتمعاتٍ ودولاً أن يتحرروا من إساره، وأن يستعيدوا مناعتهم في مواجهة عنف أبنائهم. وإيران عنيفة وصعبة، لكنها لم تؤذِ الولايات المتحدة، وبعد الاتفاق على النووي يمكن التعاوُن معها على ملفاتٍ أخرى!

لقد بذلت المملكة العربية السعودية جهوداً جبارةً في الجهتين: جهة مكافحة الإرهاب مع التحالف الدولي وقبل التحالف الدولي - وجهة خوض نقاش استراتيجي بعيد المدى مع الولايات المتحدة منذ أيام بوش الابن. وفي أيام أوباما كان هناك اجتماعان استراتيجيان بين الأميركيين ودول الخليج، واحد بالولايات المتحدة، والآخر في المملكة العربية السعودية. 

وقد توصلت هذه الجهود إلى ذورةٍ منتجةٍ في عهد ترمب، ولذلك جاء إلى المملكة لعقد اتفاقات شراكة استراتيجية مع المملكة، ومع مجلس التعاون الخليجي، ومع المسلمين بعامة. وهكذا فإنّ القمم الثلاث مهمة، وبخاصة الأولى والثالثة. في الأولى تستطيع السعودية وتستطيع دول الخليج الاعتماد على الولايات المتحدة في أمنها. والذي يقترن هذه المرة بالتطوير الكبير للقدرات العسكرية والأمنية، وإحداث صناعات عسكرية وتكنولوجية كبيرة تليق بحجم المملكة ودورها والتحديات التي تواجهها وتواجه الخليجيين والعرب.

وإذا كانت الشراكة الاستراتيجية تُسقط التحفظات بشأن الدين والعنف، فإنّ اجتماع أربع وخمسين دولة إسلامية من حول المملكة من أجل علائق استراتيجية أيضاً؛ يعني ليس فقط سقوط التحفظ على الإسلام وعلى المسلمين؛ بل يعني أيضاً اتجاهاً لتغيير الرؤية إلى الإسلام، وهي الرؤية التي ظهرت مع المحافظين الجدد في الثمانينات من القرن الماضي بشأن «الخطر الأخضر». إنه اتجاه فقط حتى الآن، وقد تبلور على مستوى الدول، وينبغي أن يتبلور على مستوى المجتمعات والمؤسسات الدينية والمفكرين المسلمين. 

وهذا مسارٌ صعبٌ ومعقَّد، لكنه واعدٌ لأنه يعيد الكلمة والقرار إلى المسلمين مجتمعاتٍ ومؤسساتٍ بعد الدول. وهذا معنى المركز الدولي لمواجهة التطرف. فلنلاحظ أنه قيل: لمواجهة التطرف؛ وليس التطرف والإرهاب. فالدول الإسلامية دخلت جميعاً وبصورةٍ جبهوية في حملة مكافحة الإرهاب. وينبغي من أجل مصالحنا وديننا أن ندخل جميعاً في عملية نهضوية لتجاوز التطرف الديني وعدم السماح بتكون أجيال جديدة، وذلك بضرب الانشقاقات والثبات عند الأصول المستقرة والأعراف الجامعة، للمصالحة مع النفس ومع العالم.