سمير عطا الله

 أحاطت إمبراطورة روسيا، كاترين العظمى، نفسها بضباط الحرس الممشوقي القامات، والفلاسفة. ولم تكتف بالروس منهم (الفلاسفة)، بل أقامت علاقات مودة مع مشاهير المفكرين الفرنسيين، وفي طليعتهم فولتير. وعندما منعت فرنسا المفكر دنيس ديدرو من نشر «الانسكلوبيديا» الشهيرة، دعته إلى موسكو لطبعها هناك.

وجعلته مستشاراً، وأعطته مكتباً خاصاً في الكرملين، حيث كانت تصغي إليه. لكن ديدرو كان، كفرنسي، ينسى أنه في حضرة إمبراطورة، فيتظاهر أنه بالخطأ لمس الإمبراطورة. ولما وجدت أنه من المستحيل إصلاح الفرنسيين، أحضرت مكتباً خاصاً وجعلته بينهما، فلم تعد يد الفيلسوف تطغى على حصافته، وأصبح رصيناً رغماً عنه، مخالفاً بذلك أعرق التقاليد الفرنسية.
كان أثر فولتير على الإمبراطورة شديداً، وأثرها عليه كاسحاً. ورأى فيها منقذة وقائدة للحضارة الغربية، وشجعها على حربها ضد بولندا وتركيا. وانتقده جان جاك روسو، ودعاها إلى الإبقاء على الحضارة الروسية. وفي كتابه الشهير «العقد الاجتماعي» (1762) هاجم بشدة زوجها بطرس الأكبر، وقال إنه يزرع القسمة بين الروس بسبب النزوع إلى الحضارة الغربية.
لكنه الصراع الذي سوف يسيطر على حياة الروس منذ القرن الثامن عشر إلى الآن: بين روسيا الأوروبية وروسيا الروسية. وتحولت كاترين في أوروبا الغربية إلى أسطورة يزيد في صناعتها رجال مثل فولتير، صاحب الفكر الأكثر تأثيراً يومها، في أنحاء القارة. وكتب إليها رسالة شهيرة يقول فيها: «أرجو أن تسمحي لي، جلالتك، بأن أذهب واضعاً خدماتي تحت قدميكِ».
غير أن كاترين نفسها لاحظت غلو الفكر الفرنسي، وبدأت بالتراجع عن نفوذ «الفلاسفة». ووصفت «الثورة الفرنسية» بأنها نتاج التعاليم المنحرفة والعنفية. وشجعت ملكي بروسيا (ألمانيا اليوم)، والنمسا، على إزالة «الطاعون اليعقوبي من باريس».
ومضى روسو في تشجيعها على رفض الهجانة والمحافظة على الحضارة الروسية وهويتها. وهاجم البولنديون والروس لاعتمادهم الزي الفرنسي. وقال إن الكتّاب والشعراء الموالين للسلطة «يحيكون الورود والأزهار الاصطناعية، من أجل أن يغطوا الأغلال الحديدية». وقال إن الأدباء والمفكرين يؤمنون الغطاء والمبرر للأقوياء والظالمين، وبذلك يعمقون الانقسام والفوارق الاجتماعية التي تولد الآلام والعنف.
كان فولتير حاضراً دائماً في كل انتقادات روسو. واتخذ مواقف مناقضة له في كل مكان وسائر القضايا المطروحة في أوروبا آنذاك. لكن أحدهما كان سويسرياً فقيراً، والثاني فرنسياً ثرياً. وكان فولتير يملك، فيما يملك، شركة لصناعة الساعات، يكلفها صناعة ساعات خاصة للإمبراطورة..