نادية الشهراني

كان الخوف يقيدنا بدون ارتكاب أي ذنب أحيانا، بل هو الخوف لمجرد الخوف، وكأن الخوف هو العبادة القلبية الوحيدة! كنا نصلي لكي لا تحرقنا النار، ونسبغ الوضوء على المكاره لكي لا تأكلها النار

تعلَّم جيل الصحوة جيدا كيف يتعبّد بدافع الخوف، فالتخويف كان المهارة الأساسية التي أتقنها أبطال تلك الحقبة. قلة فقط من ذلك الجيل أسعفهم الحظ وامتلأت قلوبهم حبا لله سبحانه، وتعبّدوا له سبحانه بالمحبة والرجاء. كان الخوف يقيّدنا بدون ارتكاب أي ذنب أحيانا، بل هو الخوف لمجرد الخوف، وكأن الخوف هو العبادة القلبية الوحيدة! كنا نصلي لكي لا تحرقنا النار، ونسبغ الوضوء على المكاره لكي لا تأكلها النار، ونمتنع عن سماع الأغاني كي لا يصب الحديد المحمي في آذاننا يوم القيامة. لم يعلِّمنا المتعبدون بالخوف كيف نتلذذ بالطاعة محبة لله، أو كيف نجدد التوبة لأنها تقربنا من الله وتجعلنا من أحب عباده إليه كما يقول تعالى في كتابه (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). لم يسهب المتحدثون آنذاك، وهم كثر، في شرح آيات الرحمة كما أتخمونا بالحديث عن آيات العذاب. كل ما أتذكره من أشرطة تلك المرحلة هو دعوة للموت بأشكاله المختلفة.
ازدحمت ذاكرتنا الصغيرة آنذاك بعبارات مخيفة بين أفعى تنتظر وفاتنا وذئب يتربص بنا وينتظر سقطتنا المؤكدة بين مخالبه. اختطفت الصحوة -إن صحت التسمية- سنين جميلة من أعمارنا، تغلغلت حتى في برامجنا المدرسية التي كان يفترض أن تغرس فينا حب الحياة، لكن على العكس أسهمت المدارس بشكل ما في الأدلجة، مدفوعة بالتوجه السافر لإعلاء صوت الموت فوق الرغبة في الحياة. 
لستُ هنا لأشكو تشويه إنسانيتنا آنذاك، فالضرر حصل وخرج أغلبنا من تلك المرحلة مقصوص الجناح برغبته
أو رغما عنه، وكانت عملية استعادة هذه الأجنحة ولادة من الخاصرة كما يقال. وأظن من خرج من تلك المرحلة المأزومة محتفظا بوسطيته أو قادرا على استعادتها يستحق التهنئة والتكريم. لكن التحديات لا تأتي فرادى، فالمجتمع الذي تغلغلت فيه الصحوة والتزمّت عانى كذلك من هزات ارتدادية تمثلت في ظهور النماذج المتطرفة التي كانت تعبر عن تطرفها بلا رادع من خوف النظام أو المحاسبة! 
تذكرت تلك الحقبة وأنا أتابع انطلاقة البرنامج الحكومي «اعتدال» الذي يعمل على كشف ودحض الفكر المتطرف في المحتوى الإلكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي. وبحسب الرسائل التي يرسلها المركز فإن آلية عمله دقيقة جدا بحيث يمكن التنبؤ بنسبة تعاطف الشخص مع الحركات التنظيمية من خلال تتبع أنشطة الحسابات التي يتفاعل معها، هذا التتبع سيستخدم للحد من عمليات استقطاب الضحايا عبر المواقع الإلكترونية. سيعمل ‏المركز أيضا كما أعلن عبر موقعه على مقاومة الأدلجة من خلال رصد الأنشطة المتطرفة واتخاذ الإجراءات المناسبة حيالها. أثق -بإذن الله- في الدور الذي سيقوم به هذا المركز في إعادة الاعتدال لمؤسساتنا المجتمعية والرسمية وللبيوت، فقد آن للمجتمع أن يولد من جديد ويتخلى عن ظلام التطرف وضلالة التضييق على الناس في كل شؤون حياتهم. 
يقول دستويفسكي إن «على كل إنسان في هذا العالم أن يتعلم حب الحياة قبل كل شيء»، فمحبة الحياة يجب أن تكون جزءا من رسالة المركز. رسالتي للمركز هي أن يجاهد أولا لنشر ثقافة الاعتدال في المجتمع من خلال جناح إعلامي نشط يقوم بعقد الشراكات الفعالة، خصوصا مع المؤسسات التعليمية، لتعزيز حب الحياة وفكرة الاعتدال. أدعو القائمين على المركز إلى المراهنة على النشء والعمل مع الجهات المسؤولة على تعليمهم وتربيتهم عن قرب، فالناشئة أقدر على تقبل التغيير وتبنيه والنمو معه وبه. شاركوهم في المشروع، فالإنسان بطبيعته يبدي حماسا أكثر للمشاركة في أي مشروع يعي ثقافته ويعرف أهدافه ويشعره القائمون عليه بأهمية مشاركته فيه لمستقبله ولمستقبل المؤسسة المعنية وهي الوطن في هذا السياق. عندما تنتشر ثقافة الاعتدال سيقل تلقائيا الاحتياج لمتابعة تحركات الفكر المتطرف على وسائل التواصل، لأن المستهدفين سوف يتحولون لمواقع أكثر فائدة لهم ولمجتمعاتهم. إذا آمن النشء بضرورة الاعتدال ورأوه السبيل الطبيعي للحياة الكريمة سيخرج الجميع من عباءة الصحوة بصحوة مضادة مفعمة بالرغبة في الحياة.