عبد المنعم سعيد

 في العلوم الطبيعية، فإن فهم المتناهي في الصغر (الجين والذرة، وما في حكمهما) لا يقل صعوبة عن فهم المتناهي في الكبر (الكون والمجموعة الشمسية والأجرام والأفلاك، وما في حكمها)، وكذلك الحال بين الدول. فالتعقيد العصي على الفهم الموجود في دولة عظمى، مثل الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، قد يماثله تعقيد آخر في دول صغيرة، مثل ماكرونيزيا وفيجي وسنغافورة وبروناي ولوكسمبورغ. دولة قطر ليست استثناء من هذه القاعدة، فمساحتها تقل عن 12 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها يقل عن 3 ملايين نسمة، القطريون منهم 12 في المائة فقط، أو 312 ألف نسمة.
وفي قطر، يميزون من يسمونه «قطري حصي»، أي: القطريون الأصليون الأنقياء قبل الزواج والنسب مع جنسيات أخرى، وهؤلاء ربما لن يزيدوا عن نصف هذا العدد. ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للدولة 353 مليار دولار مقوماً بالقدرة الشرائية للدولار، ومن دون ذلك فإن القيمة اسمياً هي 185 مليار دولار.
وفي العموم، فإن السمات العامة للدولة القطرية لا تختلف كثيراً، من حيث التاريخ والتركيبة الاجتماعية والأصول التاريخية والقبلية، عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، فإن السلوك السياسي للدولة كان مخالفاً، خصوصاً خلال ربع القرن الأخير، لسلوكيات الدول الأخرى.
والحقيقة أنه منذ استقلال قطر، في عام 1971، حتى عام 1990، فإن سياستها الخارجية كانت في عمومها انكماشية، تسير في الاتجاه الذي تسير فيه الدول العربية الأخرى في الخليج. وعندما كانت تُنْصَح باتخاذ سياسات نشطة في بعض أمور المنطقة، فإن الإجابة الدائمة كانت: إن قطر ليست دولة عظمى، والمفضل دائماً أن ترى ماذا سوف يفعل الآخرون!
في عام 1990، حدثت ثلاثة تطورات مهمة أدت في مجموعها إلى تغيير جوهري في السياسة القطرية الخارجية: أولها الغزو العراقي للكويت الذي جعل قطر دولة مشاركة في التحالف الدولي والعربي لتحرير الدولة الشقيقة، وهذه المشاركة أعطت لقطر إطلالة على العالم الواسع الذي بدأ يستشيرها في أمور استراتيجية مهمة تتعلق بأمن منطقة الخليج، وعلاقاته مع القوى العظمى. وثانيها أن ما كان حلماً وخيالاً، فيما يتعلق بالغاز الطبيعي في قطر، أصبح حقيقة في طريقها إلى الإنتاج والتصدير، بعد أن باتت اليابان على استعداد لتوقيع عقد مع قطر لتوريد الغاز لمدة 25 عاماً، بعد شرط لبته قطر، وهو دخول الشركات الأميركية في عملية الإنتاج. انتهى الكابوس الناجم عن تراجع الإنتاج القطري من البترول، والخوف من تلاشيه كلية بعد أن تدنى إلى قرابة 400 ألف برميل في المتوسط يومياً، بل على العكس، فإن الغاز لن يعطي قطر ثروة كبيرة فحسب، وإنما سوف يعينها أيضاً على الاستثمار في البترول حتى تصل صادراته إلى 600 ألف برميل يومياً. وثالثها أن الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ولي العهد، قد شب عن الطوق، وبات مهيمناً على الوزارات والأجهزة الأمنية الرئيسية، بعد الاستبعاد التدريجي لأعمامه وإخوته.
المتغيرات الثلاثة أعطت ولي العهد القطري تصوراً مختلفاً لقطر ودورها في المنطقة، وتصورها لذاتها وما تعتقد أنه حقوقها التاريخية، عما كان عليه حال الدولة منذ الاستقلال. وظهر ذلك في ثلاثة أمور لافتة للنظر: أولها أن قطر قررت استغلال أزمة احتلال الكويت، وما تبعها من حرب كبري، في المطالبة بتصفية خلافها الحدودي مع البحرين، حول جزيرتي حوار وفشت الديبل، بحيث تنتقل السيادة عليهما إلى قطر بدلاً من البحرين. وعندما قدمت المملكة العربية السعودية حلاً توفيقياً في الموضوع، يقوم على ربط البلدين بجسر بحري، مع حصول قطر على 5 مليارات من الدولارات، فإن قطر رفضت. على أي الأحوال، فإن الخلاف بعد ذلك ذهب إلى محكمة العدل الدولية، وانتهى ببقاء الجزيرتين مع البحرين، في هزيمة دبلوماسية كبرى كان يمكن تجنبها إذا ما سادت وجهات النظر الحكيمة. وثانيها، وأثناء الأزمة والحرب وما بعدها من ترقب، دفع ولي العهد في اتجاه مد الحدود القطرية مع السعودية في اتجاه الغرب تدريجياً، لخلق جوار جغرافي جديد مع دولة الإمارات العربية المتحدة. النتيجة بعد ذلك عرفت بأزمة «الخفوس»، التي حسمتها القدرات العسكرية السعودية، فوصلت الرسالة إلى الدوحة، وعندما جاءت الوساطة المصرية لحل الأزمة، كانت قطر قد أصبحت جاهزة للتوافق على الحقيقة الكبرى، أن لها جاراً برياً واحداً، هو المملكة. وثالثها أن ولي العهد، بعد الإخفاق في الحالتين، وجد ضرورة في تغيير الواقع السياسي كلية، بالإطاحة بالأمير الوالد أثناء زيارة خارجية له. لم يكن ذلك بعيداً عن تقاليد سابقة في الدولة، ولكن الجديد فيها كان أن التغيير صاحبته رؤية قوامها قدرة قطر على لعب دور إقليمي ودولي بحكم ثروتها، وبحكم القدرات الخاصة لقيادتها السياسية، أو هكذا كان الاعتقاد السائد، حتى ولو كان مفارقاً للحقائق الجيو سياسية والجيو استراتيجية للدولة.
ثلاثة عناصر جعلت المفارقة ما بين الواقع والخيال مجسدة في السلوكيات القطرية: أولها التطور التكنولوجي الهائل، خصوصاً في مجال الاتصالات الذي يمكنه أن يعوض بعضاً من التقتير التاريخي في الحجم، ومن ثم كان إنشاء قناة الجزيرة التي قدمت حزمة من اليسار والقوميين العرب الذين كانوا يعملون تحت اليد الحازمة لهيئة الإذاعة البريطانية، وأصبح لديهم ساحة واسعة للانطلاق من قلب الخليج العربي. ولكن أمر الاتصالات لم ينته بإنشاء القناة وتوابعها، وإنما امتد إلى مجال الاتصالات كلها، من صحف وإذاعات ومواقع إلكترونية، بعضها في قطر، وبعضها الآخر في عواصم العالم الأخرى. وثانيها أن قطر استكملت حزمتها اليسارية والقومية العربية بحزمة أخرى أكبر وأوسع وأشد تنظيماً، تضم بالأساس جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها والخارجين من ردائها. أصبح الكوكتيل السياسي القطري يضم عناصر كثيرة ساعية إلى التغيير الجذري الراديكالي في المنطقة، مهما كان ذلك متنافياً مع طبيعة النظام السياسي القطري ذاته، الذي بدا في الخطاب اليميني واليساري حالة استثنائية خاصة، سواء ذلك في عهد الشيخ حمد أو الشيخ تميم الذي جاء بعده. وثالثها، وربما كانت هي القصة الأشهر والأكثر وضوحاً، وهو أن «الربيع العربي»، الذي لم تثمر فيه زهرة، ولا خرج منه عطر، خلق موجات فائرة حاولت قطر استغلالها جميعاً. وباقي القصة معروف للكيفية التي خلقت قطر فيها شرخاً هائلاً مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، وما هو أبعد من ذلك في اليمن، بينما كان لمصر مكانة خاصة في الأحقاد القطرية.
المسيرة من 1990 حتى الآن خلقت واقعاً متغيراً مختلفاً في الدولة القطرية، حاولت دول المنطقة التعايش معه، أخذاً في الاعتبار أموراً كثيرة. ولكن للصبر دائماً حدوداً، كما أن حدود القوة لها كلماتها الحاكمة، وقبل وبعد كل شيء، فإنه لا يصح إلا الصحيح، وكان لا بد من وقفة مع الشقيق.