ما بين «داعش» و«غرابيب سود».. قصاصات

محمد المزيني

< لن أقدم هنا نشرة نقدية لعمل فني عابر، كما لن أستعرض مسلسلاً اجتماعياً موقعاً بخيال كاتب له ما له وعليه ما عليه، بل مسلسل قدم له قبل عرضه أنه أضخم عمل رمضاني بعنوان: «غرابيب سود» ما حفزنا لانتظار مشاهدته بتوق، أملاً منا بمشاهدة دراما تصل في مستواها للأعمال الضخمة التي عرضها شاشة «mbc» في رمضانات سابقة، وهاجسنا يقول ان المسلسل سيقدم لوحة درامية عميقة في معالجتها متقنة في إخراجها، من خلالها سنغوص دراماتيكيا بخفة في عمق تفاصيل مسلسل يفضح الخلايا الإرهابية الداعشية بلغة مؤثرة.

سأتغاضى عن العنوان المباشر الذي قدّم للرعب قبل أن تبدأ فعالياته، وهو ما يسقط دلالاته المباشرة على النص، باغتتنا الحلقة الأولى وكأنها ترفع بـ«مانشيتات» عريضة للعمل كتب عليها، أننا في هذا المسلسل سنتطرق إلى جهاد النكاح، وأننا في طريقنا الدرامي سنصور لكم مشاهد عنيفة من تفجير ونحر وحرق، مبررة بحفنة من فتاوى شرعية واهنة ستسقط من ألسنة القادة مباشرة، ذوي الوجوه الحانقة والأعين المتسعة على الرعب، بما يشبه لوحة كاريكاتورية مضحكة، ثم انطلقنا مع حلقات المسلسل في مشاهد مركبة من رسائل مباشرة بلا حبكة درامية، مجدُولة بأسلوب تراتبي منطقي، شاهدنا دماء تراق ورؤوس تقطع، وأطفال يعلمون اللعب بالبنادق المصوبة نحو الأعداء.

لم يعد ثمة أمل يبقينا عند حافات التطلع لمشاهدة مختلفة في ما بقي من حلقات مهزوزة ليس من دوي المتفجرات، بل من ضعف المسلسل الذي لم يحترم كاتبه ولا مخرجه ذائقة المشاهد ولا عقلة، ثمة تهاون مفضوح في حجم القضية المطروحة التي لا تقبل العبث كتابياً وإخراجياً؛ لان ذاك سيخرج العمل برمته عن أهدافه الحقيقية، وربما قذفت الكرة في مرمى الخصم يستطيع استخدامها ككرة مرتدة يسجل بها أكثر من هدف، وهذا ما بدأنا نراه يتحقق، وأعتقد جازماً أن الكاتب والمخرج لم يعيا جيداً حساسية إسقاط بعض القيم الإسلامية على ممارسات داعش، لتبدو أدنى مناهضة للعمل مغبة كتابة نص هش ومفكك هي نتيجة عكسية تفهم بطريقة ما أنها تقف إلى صف داعش وممارساته الوحشية. نحن نذكر كيف تناول سلفي في رمضان الفائت داعش، كان قريباً جداً من الواقع؛ لذلك اعتصر مُهج المتابعين وبات حديث المجالس، أسفاً على حال شبابنا المنقادين لغواية دعاة الموت والقتل المجاني تحت أدلة شرعية مفلسفة بطريقة واهية وخبيثة.

في حلقتين تمكن القصبي وفريقه من إيصال رسالة ناجحة وعميقة، نجحوا أيما نجاح وفشل مسلسل غرابيب سود أيما فشل. فشل في أن يثير فينا شجناً أو يحرك عاطفتنا، المسلسل يشبه داعش في شيء واحد أن كلهما مركب من «قصاصات»، غرابيب سود مركب من قصاصات صحفية، وداعش مركب من قصاصات شرعية لا يمت بعضها إلى بعض، بها يرتكبون مجازرهم.

أسألكم؛ ماذا لو كتب العمل مثلاً الدكتور وليد سيف، وأخرجه حاتم علي، حتماً لرأينا إبداعاً يضاهي الواقع. هل تذكرون مسلسل ربيع قرطبة، ومسلسل ملوك الطوائف، ومسلسل عمر، الذي ما ان أعلن عنه حتى انتفض المعارضون؛ لاستحضاره الشخصيات الدينية ذات العمق التاريخي، كالرسل والصحابة، إلا أن ثائرتهم لم تلبث أن خبت بعدما رأوا عظمة هذا الفن وإبداعه وكيف يبعث الشخصيات العظيمة إلى الحياة من دون أن ينتقص منها، بل ويزيدها بهاء وجلالاً.

غرابيب سود أعلن منذ البدء عن سقوطه جملة وتفصيلاً، مضى في كل حلقاته ليصور لنا القتل والتدمير بلا أدنى عمق فلسفي أو تأويلي أو حتى استشرافي يتضمن من داخله الابعاد الثلاثة (الاجتماعي والسياسي والديني)، قدم شخصياته بمباشرة فجة وحتى أسباب انخراطهم في العمل الإرهابي وانضمامهم إلى داعش والهجرة إليها، لم يكن موفقاً البتة، لم أناقش الثيمة الأبرز في مسرودة غرابيب سود تلك المتعلقة بجهاد النكاح، فقد أوسعت من النقد والاستسخاف ما يكفيها، ويكشف عريها وتجردها من الصحة، كما لن أجادل الذين وقفوا بتعاطف موارب للعمل المأخوذين بكراهيتهم للإرهاب والإرهابيين، كرد فعل على تجارب سابقة، فلهؤلاء ما أرادوا.

الذي أجهز على قابلية المتلقي للمسلسل تلك الشخصيات المستفزة التي تتحدث بلهجات متباينة ولغة عربية مفككة، وقد استحضر العقل المقالي المكرر بطريقة لا تمت إلى حركية الدراما المتصاعدة ذات الحبكة المتينة بأي صلة، تلك التي تجيء بصوت الفنان راشد الشمراني، كمونولوج داخلي لم يستطع به أن يعبئ الفراغ التأويلي أو الفلسفي المقنع داخل النص المضحك جداً، هل تناسى الكاتب أن الباحثات عن حياة المتعة الجسدية لن تقودهن غواياتهن الغبية العمياء إلى رمضاء داعش المتفجرة بالقنابل المحاطة بالموت من كل جانب، بينما يستطعن بلا ممانعة الحصول عليها وهن منعمات آمنات في بيوتهن إما بالمسيار والمسفار والمتعة، التي تتيحها الطائفتان.

«غرابيب سود» كان بحاجة ماسة إلى مراجعة كاملة وتمحيص متمعن من متخصصين في علم الإرهاب وفي العلوم الشرعية وحتى التاريخية، خبراء متمرسين في صياغة الأعمال الدرامية. نتمنى ألا تفجعنا الـ «mbc» مستقبلاً بعمل واهن ومرتبك آخر يقلل من شأنها في عين المشاهد. ولتكن كبوة جواد.