إياد أبو شقرا

كما هو معروف، ثمة فارق أساسي بين «الامتحان» و«المباراة». الفارق أنه في الامتحان ممكن جداً أن ينجح الجميع ولا يكون هناك فاشلون... أما المباراة فلا بد أن تنتهي بناجح (أو رابح) وفاشل (أو خاسر).

إياد أبو شقرا، كاتب صحافيّ ومحلّل سياسيّ وباحث في التّاريخ

المسابقات الأكاديمية المدرسية والجامعية في الأغلب الأعمّ امتحانات، إلا عندما يكون المطلوب اختيار عدد محدّد من الطلبة المترشحين لدخول معاهد عالية انتقائية أو التأهل لمرحلة تخصّصية عدد مقاعدها محدود، وعندها يفشل في الدخول أو التأهل حتى أولئك الذين يحققون علامات نجاح. بعكس ذلك، طبعاً، المباريات والمسابقات الرياضية على أنواعها... حيث هناك ناجح أو رابح واحد لا غير.

مناسبة هذا الكلام، الانتهاء بالأمس - مبدئياً - من مهزلة التوافق على قانون جديد للانتخابات النيابية في لبنان وسط كلام عن «رابحين» و«خاسرين». وكانت المماحكات والمزايدات والمناورات، والمطالب التعجيزية والمطالب المضادة، قد طغت طويلاً على المشهد السياسي... فتحوّل قانون الانتخاب ككثير من الملفات اللبنانية، من الطاقة وحتى الزبالة، إلى مادة لإلهاء الشارع في بلد لا يريد الاعتراف بأنه يعاني من «أزمة حكم»، كي لا نقول: «أزمة وجود»!

أما الجانب اللافت في مهزلة التوافق، التي «بشّرنا» بها مشرّعو لبنان بعد مجلس وزرائه، فهو أن الكلام عن فريق سياسي أو طائفي «رابح» وفريق آخر «خاسر» تكرّر بعد اعتماد القانون الجديد علناً في الإعلام... لا همساً في الكواليس.

وجود «رابح» و«خاسر» من اعتماد قانون انتخاب ليس استثناءً في الحياة السياسية الديمقراطية، لكن ليس بالصورة التي تستبطن الهيمنة والإلغاء، كما هي الحال في لبنان. ثم إن الحياة السياسية الديمقراطية في أي دولة سويّة - لا تكون الانتخابات فيها «معلّبة» ومحسومة النتائج سلفاً - يستحيل أن تقوم في ظل وجود فريق مسلّح دون سائر الأفرقاء الآخرين... يهيمن على مناطق نفوذه، ويشارك الآخرين حصصهم في مناطق نفوذهم. بل، وسبق له أن مارس ضغطه ميدانياً غير مرة.

أضف إلى ذلك، أن التقاسم الطائفي في النظام السياسي اللبناني ينصّ عليه القانون. لا بل إن الانتماء للطائفة يسبق الانتماء للوطن في كثير من مجالات الحقوق والواجبات، لكون الدستور اللبناني نفسه يتعامل مع اللبنانيين في مباريات التعيين لوظائف الدولة - المدنية والعسكرية – بصفتهم أبناء طوائف لا مواطنين متساوين في الحقوق الواجبات. ولكن من منطلق احترام التعدّدية ارتؤي حفاظاً على «الوحدة الوطنية» - ذلك التعبير السمج الذي بالكاد يقتنع به لبناني عاقل - اعتماد المناصفة بين الطوائف الإسلامية والمسيحية بصرف النظر عن التعداد السكاني ووتيرة التزايد الديموغرافي.

وبالتالي، فإن الكلام عن «رابح» و«خاسر» مسألة بديهية طالما ظل لبنان أسير الطائفية أولا، وطالما بقيت الأحزاب السياسية تكتلات طائفية الهوية والولاء والمصالح ثانياً. إذ إن أي زيادة في نصيب طائفة أو تكتل حزبي يمثل تلك الطائفة ستكون حتماً على حساب تناقص نصيب طائفة أو طوائف أخرى، والسبب أن المقاعد النيابية محدودة، والمناصب العليا في الدولة (القضاء والإدارة والحكومة والسلك الدبلوماسي والجيش وقوى الأمن) أيضاً محدودة ومحجوزة للطوائف.

من ناحية أخرى، الدور الكبير الذي لعبه ويلعبه رجال الدين اللبنانيون في السياسة ليس ابن البارحة. هذا صحيح. ولكن في عصر مؤسسات المجتمع المدني وهيئاته و«ثورة الاتصالات»، تحوّلت حتى المناسبات الدينية إلى منصات سياسية. ففي الجانب المسيحي، باتت الاجتماعات الدورية المطارنة (الأساقفة) الموارنة برئاسة البطريرك مناسبات لتسجيل المواقف السياسية الصريحة. والشيء نفسه يقال عن عِظات الأحد الأسبوعية حيث بالكاد تخلو عظة من توجيه أو تعليق سياسي.

كذلك في الجانب الإسلامي، دأب أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله عن إطلاق خُطب التعبئة وإعلان المواقف وشنّ التهجمات وإطلاق التهديد والوعيد في مناسبات دينية شيعية. وها هي بعض القوى السنّيّة الآن تنسج على منواله... فتحوّل مآدب الإفطار الرمضانية إلى منابر سياسية تجييشية وتحريضية بصورة غير مسبوقة.

وفي الحصيلة النهائية مع ادعاء اللبنانيين الحرص على بناء مجتمع مدني سليم يقوم على التوافق الحقيقي، فإن القوى التي تزعم التكلم باسمهم لا تعدم وسيلة لوأد أي تحرك في هذا الاتجاه. وقد لا يكون من قبيل المبالغة القول إن المجتمع اللبناني اليوم أكثر تعصّباً وطائفية مما كان عليه في منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي. ولعل ما يزيد الطين بلة أن الشباب اللبناني الذي يطالب هذه الأيام بخفض سن الاقتراع وينشط في منظمات المجتمع المدني... ما زال - بمعظمه للأسف الشديد - مفتقراً إلى الذاكرة السياسية، كما أنه ما زال عاجزاً عن إدراك الديناميكيات المتحكمة بالواقع السياسي والأمني في البلد.
إن الكلام عن «رابح» و«خاسر» في قانون انتخاب، وفي ظروف كظروف لبنان، ينسف عدة مفاهيم دفعة واحدة.

ينسف أولاً مفهوم «الوفاق الوطني»، ويؤكد أنه ليس سوى وهمٍ يتاجر به المتاجرون من مختلف الطوائف. وثانياً، ينسف الديمقراطية، التي يجري إفراغها من روحها وتفصيل آلياتها التقنية على قياس مَن بيدهم وسائل الضغط والابتزاز على حساب التعايش. وثالثاً، يهدّد وحدة المصير بين اللبنانيين... عبر صفقات طائفية وفئوية مرحلية تعقد وفق ميزان قوى إقليمي تتصارع فيه في الخفاء مشاريع هيمنة وزبائنية عرقية ودينية ومذهبية. ورابعاً وأخيراً، يدمّر إمكانية بناء وطنٍ حقيقي لكل اللبنانيين مصلحة مشتركة في بنائه والعيش فيه أحدهم «مع الآخر» لا «على حساب الآخر».

في وطن كان يفترض به أنه تعلم من أخطاء حرب ضروس أتت على الأخضر واليابس طوال 15 سنة، وفتكت بزهرة شبابه ونهضته الاقتصادية، مؤذٍ جداً الإصرار على سياسة الهروب إلى الأمام.
وفي منطقة تئن من الحروب الفئوية والتدخلات الأجنبية، في غياب قيادات عالمية حكيمة، كان من الأصوب تحصين لبنان بدلاً من إلحاقه بمسلسل الانهيارات والأحقاد والاستقواءات بالخارج.
لكن الطبقة السياسية اللبنانية، للأسف، تعيش في الماضي وللماضي.