سمير عطا الله

ذهب الكاتب البريطاني كيري براون إلى الصين من أجل دراسة اللغة والحياة. وخطر له أن يتعرف إلى أحد من الذين شاركوا في «الثورة الثقافية»، ذلك الفصل الوحشي الرهيب الذي أدّى إلى مقتل مليوني شخص بالعصي، أو بسكاكين المطابخ. لكنه لم يعثر على أحد من المرتكبين. كل الذين قبلوا التحدث إليه كانوا من الضحايا.
أين يتبخّر الجلادون بعد تغير الأنظمة؟ كيف يذوبون؟ كيف يندمجون في حياة ضحاياهم من دون أن يتعرف إليهم أحد؟ هناك معرض في برلين الشرقية للفظائع التي كان يرتكبها رجال «الستاشي»؟ لكن أين هم رجال الستاشي»؟ ماذا حل بهم؟ هل يشاهدون ضحاياهم في الطرقات؟ بعد سقوط النظام الشيوعي بقليل، ظهر مدير الستاشي السابق في نيويورك في مهنته الجديدة: مؤلفاً لكتب الطبخ الألماني.
والأرجح أنه لا يزال هناك. وربما انتقل من كتب الطبخ إلى كتب الحدائق أو البحيرات. عدتُ إلى قراءة كتاب «أرخبيل الغولاق» لإلكسندر سولجنتسين، ليس من أجل الاطلاع من جديد على ماذا كان يحدث في معسكرات الاعتقال السوفياتية، وإنما كمحاولة لإلقاء نظرة أدبية جديدة على قيمة الأعمال التي تركها. ويجب الإقرار بأننا لم نقرأ سولجنتسين جيداً في أيامه. كانت الدعاية السوفياتية الطاغية قد شوهت فينا أي موقف أدبي موضوعي من أعماله. ولم يعد ممكناً أن ننظر إليه إلا كجزء من عملية إمبريالية واسعة ضد نضارة العهد الستاليني وسماحه.


أريد الاعتراف بأكثر: في السبعينات، كان معيباً أن تُشاهَد في بيروت ومعك كتاب للرجل. وقد رويت غير مرة هنا، كيف، خلال غداء أقامه له غسان تويني في «النهار»، ضحك السفير السوفياتي ألكسندر سولداتوف تحت أنيابه، عندما سأله أنسي الحاج رأيه في سولجنتسين، وقال إنه يعالج في مصح عقلي. وضحكنا جميعاً للنكتة القبوية (من قبو)، وكنا جميعاً منافقين. ففي دواخلنا كنا ندرك، جميعاً أيضاً، بأن القيم البشرية التي يمثلها سولجنتسين، لا تسمح باستمرار العالم الذي يمثله سولداتوف.
في أي حال عدت إلى قراءة «الغولاق» الذي بيعت منه آنذاك، ملايين النسخ. ورأيت أنني غير قادر على قراءة متتابعة، فانتقلت إلى قراءة عشوائية. ثم اكتشفت أنني غير قادر حتى على القراءة العشوائية عن عمليات تعذيب حدثت في روسيا أوائل القرن الماضي. آخر ما تحملت قراءته أن محقق السجن كان يقدم لاثني عشر رجلاً وجبة من أشهى أنواع الطعام هي الوجبة نفسها التي تقدم إلى رئيس السجن. الوجبة نفسها، مقسمة على 12 جائعاً. أين يتبخر الجلادون.