جميل مطر

في إدارة الرئيس دونالد ترامب ثلاثة رجال تعارف بعض صحافيي البيت الأبيض والمقربين من مراكز صنع السياسة على تسميتهم بالرجال الناضجين. هؤلاء هم ماكماستر كبير الاستراتيجيين في الإدارة، وماتيس وزير الدفاع، وكيلي وزير الأمن الداخلي. الثلاثة ضباط كبار في المؤسسة العسكرية، واحد من الثلاثة مازال ضابطاً عاملاً، أي في الخدمة العسكرية، والاثنان الآخران متقاعدان. أما لماذا يحظون بصفة النضوج بينما يُحرم منها زملاؤهم من الوزراء والمستشارين السياسيين والأقرباء والأصدقاء، فذلك لأنهم يحملون شهادات أكاديمية من مراكز تدريب عدة وحصلوا على خبرات في فروع متعددة ليس أقلها شأناً خبرة صنع القرار. هم أيضاً يستحقون صفة النضوج لأنهم، في نظر الصحافيين المعتمدين، نجحوا في أن يحتفظوا لأنفسهم وللمؤسسة العسكرية بسمعة طيبة ورجاحة عقل وتعاملوا مع أزمة الجنرال فلين برشد وبعد نظر.

أليس غريباً ومثيراً للتأمل أنه بعد مرور ما يقرب من خمسة شهور من حكم الرئيس ترامب لا يزال الرجال الثلاثة باقين في مناصبهم. يرتضون لأنفسهم أن يكونوا مستشارين أو مساعدين لرئيس أساء التصرف في عدد كبير من القضايا، وبخاصة في قضايا ثلاثتهم يهتمون بها أو لهم فيها خبرة طويلة أو تقع مباشرة في صلاحيتهم ومسؤولياتهم؟ أتصور، وأظن أن كثيرين في واشنطن تصوروا، أن الرئيس ترامب حين اختارهم كان يفعل تماماً ما فعله عديد الرؤساء الأميركيين، كان حريصاً على أن يحيط نفسه بأشخاص يعوضون بعلمهم وتدريبه وكفاءتهم ما يفتقر هو نفسه إليه. لا رئيس، في ما أعلم، وصل إلى الحكم في واشنطن أو لندن أو باريس أو برلين أو نيودلهي أو بكين، ادعى أنه يستطيع أن يحكم من دون الاستعانة بمن يفهم في ما لا يفهم هو فيه، وبخاصة في قضايا الأمن والعلاقات الدولية.

الواضح لنا، وبالتأكيد للرجال الثلاثة، أن الرئيس ترامب على رغم أنه سعى لضمهم إلى فريقه إلا أنه لم يستعن بهم ولم يستشرهم بل راح يسيء التصرف في أهم ثلاث قضايا من اختصاص هؤلاء الرجال. أساء إلى مكانة أميركا كزعيم للغرب، وأساء إلى وحدة حلف الناتو، وأساء إلى منظومة القيم والمبادئ التي حكمت علاقة العسكرية الأميركية بالعالم الخارجي.

تمتع العسكريون في أميركا، كما في دول أخرى، بهالات رافقت صعودهم إلى القمة في مؤسساتهم العسكرية وفي انتقالهم بالتقاعد أو بغيره إلى الحياة المدنية. لا شك في أن التاريخ أنصفهم ولعله بالغ في ذلك. قيل مثلاً إن انتصاب قامتهم عند مخاطبة الجماهير ودقتهم في اختيار الكلمات وتجنبهم استخدام الإشارة بالأيدي تكسبهم احترام الناس. قيل أيضاً إن تعودهم على عدم الانحياز سياسياً وبعدهم من مغريات الحياة السياسية وتواضع رغباتهم المادية واستعدادهم للتضحية بالنفس وميلهم الأكيد للانضباط واحترام مواثيق الشرف في مواقع العمل، إن وجدت، كلها وغيرها، يفتقر إليها الرئيس دونالد ترامب ومستشاروه المقربون من العائلة أو من دوائر عمله في العقارات والملاهي وعالم الصفقات. كان وجود هؤلاء الرجال «الناضجين» في الحكومة بكل هالاتهم الأسطورية ضرورة لتحسين صورتها وتوليد شيء من الثقة بينها وبين الإعلاميين والرأي العام.

أعتقد أن هؤلاء الرجال لا يمكن أن يكونوا سعداء بصورة أميركا الراهنة، سواء صورتها في الداخل أو في الخارج. أميركا تبدو معزولة أو منعزلة لأسباب، بعضها أقدم من وصول ترامب إلى الحكم، ولكن أكثرها يتحمل مسؤوليته الرئيس نفسه بتصرفاته وتناقضاته وتهوراته. تبدو أيضاً دولة أنانية ولا تخفي الجشع والنية في الهيمنة. دولة تبدو كما لو كانت تحركها «شهوات» عاجلة. دولة ابتعدت في ظل ترامب عن القيم الإنسانية والمثل العليا وتتجاهل المصالح الطويلة الأمد. هناك تناقض واضح بين ما يؤمن به هؤلاء الرجال أو ما أنشئوا عليه داخل المؤسسة العسكرية وبين ما يعتنقه ترامب وغالبية جماعته. قيل لي عندما سألت لأفهم، إنهم -أي الرجال الثلاثة الناضجون- يبذلون جهداً فائقاً ليلتقوا مع الرئيس عند منتصف الطريق.

قد يكون صحيحاً، ولكن ألا يحمل الالتقاء عند منتصف الطريق نية أو عزم التنازل عن قيم وأمانة وخبرة وصرامة؟ سمعت بقليل من التفهم أنهم ربما حصلوا من ترامب على وعد بتهدئة عدائه لإيران مقابل أن يستعيدوا الكره التقليدي لروسيا، العدو القديم الجديد للمؤسسة العسكرية الأميركية. قيل لي أيضاً إنهم يغطون على أخطاء وممارسات إن خرجت للعلن أساءت لأميركا ولهم هم أنفسهم باعتبارهم شركاء في المسؤولية، وأساءت بالتالي لسمعة المؤسسة العسكرية التي انتموا أو ينتمون إليها. رأيناهم يصححون ما يقول رئيسهم في عديد العواصم العالمية ومؤتمرات القمة الصناعية وقمة الناتو.

أظن أنهم لن يتحملوا طويلاً استمرار العمل مع الرئيس ترامب ولا الضغوط اليومية من ناحية المؤسسة العسكرية الحريصة على حماية نفسها والأمن الأميركي من تقلبات شخصية رئيس الجمهورية. أتصور أنهم قد يبذلون محاولات أخيرة يحصلون بها على استقلالية أكبر في إدارة الشؤون التي تقع ضمن اختصاصاتهم. وبالفعل رأينا وزير الدفاع ينجح في الحصول على تفويض من رئيس الجمهورية يخوله حق زيادة أو خفض القوات الأميركية في الخارج، مثل سورية وأفغانستان، من دون الرجوع إليه. كذلك لا أستبعد الاستطراد في الدفع نحو تصعيد التوتر مع روسيا سواء بزيادة الضغط الاقتصادي أو بإثارة المتاعب لأجهزة الأمن والجاسوسية والمعلومات الروسية. من ناحية أخرى أكاد أكون واثقاً من أن ثلاثتهم مع عدد آخر من قادة الحزب الجمهوري تدخلوا فوقع التناقض والارتباك في سياسة إدارة ترامب حول الوضع في منطقة الخليج العربي.

الشهور المقبلة قد تشهد تدهوراً أشد في سمعة أميركا وتهديداً لاستقرار الحكم. في هذه الحال سيكون من الصعب على الثلاثة «الناضجين» جميعهم أو أحدهم القفز من سفينة ترامب.