عبدالحق عزوزي

تسيير الشأن العام من العلوم التي ينبغي أن تكتب قواعدها وتدرس في المعاهد والكليات والمؤسسات، وهي من العلوم التي يتعين أن تتطور في الوطن العربي ويكتب عنها وينظّر، لأنك لو بحثت إشكالات التنمية في أقطارنا العربية، ستجد أن من بين الأسباب الحقيقية للتخلف غياب الحكامة الجيدة، وغياب الواقعية في التسيير، وغياب الأطر الكفؤة، أو تواجدها في أماكن بعيدة كل البعد عن المناصب التي يجب أن تنالها. وكذلك كثرة المحسوبية والرشوة وتوجيه الاستثمارات في اتجاهات خاطئة تأتي على الميزانيات السنوية دون أن يجد لها المواطن أي فائدة... قارن معي: اليابان دولة مساحتها محدودة جداً، ولكنها تمثل ثالث اقتصاد في العالم، ولا يخلو بيت من بيوت العالم من أن تجد فيه آلة أو حاسوباً أو هاتفاً صنع في هذا البلد؛ فاليابان عبارة عن مصنع كبير قائم على حسن التدبير، وعلى الاستراتيجية الثاقبة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، يستورد كل المواد الخام لإنتاج مواد مصنعة يصدرها لكل أقطار العالم. ولنأخذ دولة أوروبية هي سويسرا. فعلى رغم عدم زراعتها للكاكو فهي تنتج وتصدّر أفضل شوكولاتة في العالم. ومع طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية فإنها تنتج أهم منتجات الحليب في العالم. فليس هناك فرق بين الأجناس والشعوب، لأننا جميعاً أبناء أبينا آدم عليه السلام، ولنا نفس القابليات الفكرية، ولكن الفرق يكمن في السلوك والممارسة، وطريقة التربية والتكوين، ومن ثم طريقة تسيير الشأن العام.

وما من إدارة، وما من مؤسسة ولا قطاع، إلا ويحتاج إلى مسيّرين أكفاء، وإلى رجال ذوي خبرة ومكانة تجعلهم على علم بقواعد التسيير وطبائع الأمور واختلاف الأشياء وتداعياتها، وعلى إحاطة بالحاضر من الأمور ومماثل ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو ما بينهما من الاختلاف، وتعليل المتفق من ذلك والمختلف، ويذهل الكثير من الناس عن هذه المسألة المصيرية.

والحديث عن الشأن العام يعني الخوض في الحياة المعيشية للإنسان من مدخول وعمل وتطبيب وتدريس وتمثيل في المجالس المنتخبة للدفاع عن مصالحه وغيرها، وهنا تكون الغلبة لمن هو أهل لتحمل الأمانة ومسؤولية التسيير، فالكفاءة والنزاهة والخبرة أمور مفروضة فيمن يرغب في إدارة الشأن العام. كما أن السياسة يجب أن تكون أيضاً قائمة على أصول لا تحور ولا تبور؛ وجوهرها يبقى دائماً إدارة الاختلاف وتحقيق مطالب الناس. فالسياسة تقوم حيث يوجد الاختلاف، أو حيث يمكن أن يقوم اختلاف، وبالتالي فهي أقرب إلى أن تكون «فن إدارة الاختلاف» منها أي شيء آخر. والإدارة أو التسيير تعني هنا، إما إدارة الاختلاف القائم، وإما العمل على خلق اختلاف آخر جديد. ومن هنا فإن ربط الدين بالسياسة –أياً كان نوع هذا الربط ودرجته- يؤدي ضرورة إلى إدخال جرثومة الاختلاف إلى الدين، والاختلاف في الدين إذا كان أصله سياسياً يؤدي إلى مشاكل داخل المجال السياسي العام، وقد يؤدي في حالاته القصوى إلى الطائفية والحرب الأهلية.

ومما يؤسف له أننا نرى في أمصار عربية عديدة دخول الفاعلين الكبار في المجال السياسي العام في جدالات فكرية عقيمة لا تمت بصلة إلى قواعد تسيير الشأن العام، فتوظف بعض الأطياف الدين في السياسة، أو تبحث عن مواضيع ثانوية تخلق الشعبوية وتحشد الجماهير وراءها. ثم إن المصيبة العظمى أن مثل هذه الجدالات تترك آثاراً سلبية على الاقتصاد والتنمية والمجتمع وتكوين النخب، ولا أخال أن دولة تعاني من هذه المشاكل البنيوية ستتفانى في تسيير الشأن العام، لأن مسألة تواجدها والحفاظ على مصالحها وتموقعها بين الفاعلين السياسيين الآخرين أهم لها من أي شيء آخر.

والشعوب في آخر المطاف هي التي تدفع الثمن غالياً إذا لم تعطِ لتدبير الشأن العام الأولوية وكامل الأهمية، وإذا لم يُجلب أناس قادرون وفاعلون سياسيون يكونون قادرين على تحمل المسؤولية، بدل الخوض في معادلات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع. فليس من الملائم إذن لجوء العقل العربي اليوم إلى مشاكل يكون المجتمع في غنى عنها، فالاشتغال بالأولويات هو سبب نجاح بلدان مثل اليابان وسويسرا، وتركها هو سبب التخلف والدمار.