حسن مدن 

ليس القصد من عنوان هذا الحديث الإشارة إلى الرجال والنساء الذين صنعوا أحداث التاريخ، من الأنبياء والقادة والمفكرين ورجال الدولة وغيرهم، الذين قادوا أو تصدروا أحداثاً فاصلة في مراحل زمنية مختلفة تشكل منها ما نعرفه ب «التاريخ».

التاريخ في النهاية هو البشر بلحمهم ودمهم، فهو ليس معطى قائماً بذاته خارج إرادتهم، يسير الناس كما طاب له، وإنما العكس هو الصحيح، فهم من يصنعونه، فبدون البشر لايكون هناك تاريخ بشري، وبالتالي فإن الحديث عن أفراد فارقين، وعن جماعات بشرية صنعوا التاريخ حديث صائب، لا سجال حوله.
لكن ما نحن بصدد تناوله تحت نفس العنوان، يدور عن «صناعة» التاريخ المروي أو المكتوب، أي التاريخ كصنعة «تأليف» تاريخ آخر غير ذاك الذي جرى. ما يعني أن الواقعة التاريخية المعنية قد تكون مختلفة، إما جذرياً أو بنسبة من النسب، عن «التاريخ» الذي رُوي أو كُتب، وهو تدخل من اللاحقين في إعادة بناء حكايات السابقين، بما يخدم هؤلاء اللاحقين ومصالحهم، حتى لو اقتضى الأمر افتعال أو اختلاق مرويات أخرى للذي جرى، مخالفة لما جرى فعلاً.
الهدف في هذه الحال هو كتابة تاريخ يلائم الحاضر، ويضفي المشروعية على مشاريع وبرامج وسياسات الحاضر في كافة صورها السياسية والثقافية والمجتمعية، للقول بأن كل هذه ما هي إلا امتداد ل «تاريخنا»، أو إن جذورها ضاربة في عمق هذا التاريخ.
ومع أن الأمر قائم على «نفي» للتاريخ الحقيقي، ولكن ليس بهدف القطع مع ما في الماضي من صفحات سود ومن معوقات، وإنما بإعادة التشبيك مع هذا الماضي، بإزاحة الحقيقة عنه، أو جوانب منها على الأقل، لتسويغ ما يجري وينفذ في الحاضر. إنه قطع بمدلول سلبي وليس بمدلول إيجابي.
هذا «النفي» للتاريخ الحقيقي قد يأتي على صورة القفز على مراحل تاريحية بكاملها وتغييبها، ومن ذلك ما لاحظه الدكتور قسطنطين زريق في نقده لكتابات بعض المؤرخين ذوي المنهج القومي حين قال: «كثيرون منا يبدأون درس التاريخ العربي بالجاهلية ويتابعون مجراه تحت حكم الخلفاء في الحجاز والشام وبغداد ومصر والأندلس حتى سقوط بغداد في أيدي التتار أو زوال ملك أبي عبد الله في غرناطة ثم يقفزون متخطين قروناً عديدة إلى عصر النهضة الحديث».
الأمة التي لا تملك الشجاعة الكافية للإقرار بتاريخها كاملاً، كما هو، بكافة تناقضاته، فتقول للعالم: ها هو تاريخي كاملاً دون نقصان، بما يضمه من محطات مضيئة ومن حقب ساد فيها الظلام، لا تخدع إلا نفسها، وهي خديعة تؤدي إلى إطالة أمد المراوحة فيما نحن فيه وعليه من ضعف وهوان.