عاطف الغمري


أحد الكتاب في صحف إنجليزية، طرح سؤالاً افتراضياً - كأنه يحاور نفسه - هو: هل يمكن التفاوض مع منظمات إرهابية، ومنها «داعش»؟ ولم يكن يعرض الفكرة من باب الاقتناع بجدوى التفاوض، وإنما من قبيل التساؤل النظري عما إذا كان ممثلو الإرهاب، يعنيهم التفاوض في شيء. 
لكن السؤال الذي وصف بأنه خارج سياق المعقول، في إدارة العمل السياسي، وجد تفنيداً له من صاحب السؤال نفسه، بقوله نحن في عصر مختلف، وفي مواجهة عدو مختلف. فالعدو هنا ليس لديه استراتيجية كبقية أطراف الصراع مع غيرها. 
ففي عصر سبق، في زمن الصراع الأمريكي - السوفييتي، كان الصراع تحكمه قواعد تتسم بقدر من العقلانية السياسية الناضجة. فكل منهما، وهو يحشد أسلحة الدمار الكفيلة بهدم الآخر، كان يتوقف عند لحظة معينة، قبل الوصول إلى حافة الهاوية، ليعيد النظر في أفكاره، ويتحكم في اندفاع آلته الحربية، وحين يدرك أنه يمكن أن يسقط في الهاوية، فإنه يكون قد تصرف وفق سلوك الانتحار الذاتي. 
أضف إلى ذلك أن كلاً من طرفي الصراع، كانت تحكمه عقيدة ناقدة في صميم استراتيجية الصراع العالمي. وفي عمق تفكيره، وهي أنه في صراعه مع عدوه، فهو يحمل رسالة للإنسانية، بأن ينشر مبادئه وقيمه، وإسقاط مبادئ وقيم الصرف الثاني في الصراع. 
أما العدو الذي يواجهه العالم الآن، فهو يرفع شعار معاداة البشرية ككل، وهو ليس قاتلاً لشعوب تختلف معه في العقيدة الدينية فحسب، بل أيضاً للمسلمين من بلاده نفسها، أو من دينه نفسه. وهو لا يطبق نظرية صدام الحضارات، بلا تمييز. 
وضمن التساؤلات التي قوبل بها هذا الطرح النظري، هو: على أي شيء نتفاوض؟ فلابد أن تكون لدى الطرف الآخر، مطالب قابلة للمناقشة. فمطالبهم المعلنة نابعة من عقل استحكمت فيه شهوة العنف والقتل، والاستمتاع بها، بل والمباهاة بها. وكل ما قاموا به وأعلنوه لا يخرج عن حدود إبادة الجنس. وأي تفاوض لن يقود إلى مصالحة، أو حتى تهدئة. لأنه لا يعترف بمصالحة مع من اعتبر أن سفك دمه هو مطلبه وغايته. 
ومع أي منهم نتفاوض؟ هل مع تنظيم «داعش»، لكونه الأشد شراسة ودموية الآن؟ ثم ماذا عن الفروع الأخرى التي تحمل الأفكار نفسها، ابتداء من القاعدة، وحتى مختلف حلقات شبكة الإرهاب العالمية، التي تعددت مسمياتها، حتى زادت على الثلاثين منظمة، وكلها تتبنى الفكر نفسه، ولها المرجعية نفسها. 
فأنت لا تواجه كيانات لها فكر استراتيجي، بكل ما يعنيه ذلك من آليات العمل السياسي، وأهدافه، لكنك تواجه ظاهرة دموية، تزداد زهواً وفخاراً، كلما رأت الدماء تنساب من على رؤوس أسلحتها. وكلما زاد عدد القتلى من ضحاياها، أياً كانت جنسياتهم، أو دياناتهم. 
أنت إذاً، أمام ظاهرة خوارج على الطبيعة البشرية، والحس الإنساني، أو حتى تعاليم الدين التي تحرم قتل النفس. ثم إنها خارجة عن التفكير العقلاني، وهو المدخل إلى أي تفاوض، أو حتى مناقشة. 
والتجارب التاريخية تقول إن ما نشهده الآن، من اتساع نشاط تنظيم «داعش» على وجه الخصوص، ليس حدثاً لم تعرفه الإنسانية من قبل، بل أن يتكرر زمنياً، ومن حين لآخر، بظهور تنظيمات، تنسب نفسها للدين - لأي دين. ولم يقتصر الأمر على من يدينون بالدين الإسلامي، بل نشأت ونشطت منظمات تمارس الأساليب نفسها، وتحمل أفكاراً مشابهة، تنتمي للديانتين المسيحية، واليهودية. كثير منها ظهر في الولايات المتحدة. ومعظم المنضمين إليها من البيض، ومن أصول أنجلوسكسونية. وكانت شعاراتهم، وقضيتهم، تكفير الدولة الأمريكية ذاتها، بكل قيمها، ومبادئها، وأفكارها، ومؤسساتها. 
هي إذاً، نتيجة لانسحاق جوهر العقل الإنساني، والانسحاب إلى عالم افتراضي، ينغلقون فيه على أنفسهم، وينعزلون عن الواقع، في انزواء كامل عن كل ما يغذي العقل الإنساني بالعلوم، والمعارف، والشعور بالآخرين. وهو سلوك لابد له من زوال، هكذا تقول التجارب التاريخية.
لكن ما يواجهه العالم الآن، ربما يختلف كثيراً عما كان عليه الحال في الماضي، فالإرهاب صار أداة في يد قوى أكبر منه، ومجهز بأحدث الأسلحة، وأشدها فتكاً وتدميراً، ومستغلاً لوسائل التكنولوجيا الحديثة، في بث أفكاره عبر وسائلها، والتأثير في عقول البعض وتجنيدهم عن بعد، ليتحولوا بدورهم إلى ماكينات للقتل. وهو ما يجعل المهمة مختلفة. من ثم لابد أن تكون الحرب عليهم بأقوى من أسلحتهم، وبتكاتف واع ومجتمعي من داخل كل بلد، وبمشاركة المجتمع الدولي بكامله، فالكل يقف على جبهة مواجهة واحدة، حتى إن كانت ممتدة عبر القارات.