سمير عطا الله

 قد يخطر لك، كما خطر لكثيرين من قبل، أن تسمي هذا الرجل مغامراً أو مستكشفاً أو رحّالة. سوف نتفق على ذلك لاحقاً. من المهم أولاً أن نحدّد زمنه، أو زمن هذه الرحلات: 1853 إلى 1870، كان الإنسان قد اخترع الباخرة والقطار. لكن هذا لا يعني أنهما يصلان به إلى أدغال البرازيل. هناك لا بد من البغال والعربات والخيول. والنزول إلى الأودية بالحبال. وقد استخدمها. وكانت معه زوجته أيضاً.


لم تكن أدغال البرازيل أولى رحلاته، فقد كان عليه أولاً، أن يكتشف منابع النيل التي لم يبلغها أحد خلال ثلاثة آلاف عام من البحث. كيف؟ قرر الصعود عكس التيار. وفكر في نهر الكونغو الشبيه بالبحار، فذهب إلى نهر الكونغو. وفكر في الحبشة، فذهب إلى حرار. وماذا عن الجزيرة العربية؟ طبعاً الجزيرة العربية. طبعاً. وماذا عن سوريا وفلسطين؟ فذهب إلى دمشق وعكا ويافا. أقام في سوريا عامين، وكانت زوجته سكرتيرته وخادمته، المأخوذة به. وكان لا بد أن يتعلم العربية، فأتقنها. انتهى؟
لا. قرر السفر إلى الولايات المتحدة، فسافر إلى ولاية نبراسكا، حيث تدور حروب بين المستعمرين والهنود الحمر. حيث يكون المجهول، يكون هو. وأحياناً معه زوجته مرتدية سروال الرجال. غارقاً في وحول الأمطار في البرازيل، أو غارقاً في تعرّقه في أفريقيا الشرقية. آه، هنا نسينا وسيلة أخرى للتنقل: الحمير! لكنها حمير هزيلة وخائفة، وغالباً ما تسقط تحت ركّابها.
المضايقة الوحيدة؟ لا. الخوف من عصابات السطو، ومن الابتزاز في كل مكان تصل القافلة إليه. فقط العرب يُحسنون وفادته، ولا يطلبون شيئاً، بل ويُصرّون على الضيافة. وهم كثيرون في القارة السمراء، وتجار ميسورون.
نهاية الإزعاج؟ لا. الحمالون في القافلة يعلنون التوقف عن المضي قدماً. وفجأة، يهوي هو على الأرض تهده حرارة مرتفعة. ويبلّغه رئيس الحمالين بأنها حمّى قاتلة، وسوف يموت بها خلال عشرة أيام. لكن تاجراً عربياً يمر بالمكان، ويتفحصه، فيقول له إنه سوف يشفى ويقوم خلال عشرة أيام. وبالفعل قام في اليوم العاشر، غير أنه ظل يعاني من شلل جزئي طوال عام كامل.
هل كان السير ريتشارد بورتون أهم الرحّالة؟ أكثرهم مغامرة؟ أكثرهم شجاعة؟ أطولهم صبراً؟ أهمهم اكتشافا؟ ربما. لكل من هؤلاء السادة (والسيدات) ملحمته في عالم السفر والمغامرة. أما بورتون، فأتذكره بصورة خاصة كلما أزعجني جاري في الطائرة بشخيره، وأتساءل ماذا أصعب، الشخير أم النزول بالقفة في شلالات البرازيل؟ كفّ عن التأفف يا هذا.