مصطفى السعيد

مع تدمير «داعش» مسجد النورى الّذى أعلن منه أبو بكر البغدادى قيام الدولة الإسلامية فى العراق والشام، يكون أكبر تنظيم إرهابى وأشدها فظاعة وسفكا للدماء قد أعلن نهاية دولته، خاصة مع تأكيد روسيا مقتل أبو بكر البغدادى زعيم داعش، لتزداد ضراوة الصراع حول إرث داعش من الأراضى بين التحالف الروسى الإيرانى السورى والتحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة. 

الانهيار السريع «لداعش» تحت ضربات الجيشين العراقى والسورى وحلفائهما لم يمنح الولايات المتحدة الوقت الكافى لتجهيز بدائل لداعش على الأرض، ويعانى التحالف الأمريكى تصدعات خطيرة، أهمها بين تركيا وقطر وجماعة الإخوان من ناحية والسعودية والإمارات وعدد من الدول الحليفة من الناحية الأخري، فى الوقت الذى تبتعد فيه أوروبا عن إدارة ترامب بخطوات متسارعة، وهو ما زاد المخاوف الأمريكية من أن تخسر كل شيء، حتى بعد أن قلصت طموحها، بأن تسيطر فقط على هلال يمتد من المنطقة الكردية فى شمال سوريا، يشمل كامل الصحراء السورية حتى يصل إلى حدود الأردن وإسرائيل فى الجنوب السوري، وبهذا تكون قد حققت مكاسب ذات قيمة أهمها فصل سوريا عن إسرائيل، وفصل العراق ومن خلفه إيران عن سوريا ولبنان، والسيطرة على حقول النفط والغاز السورية فى البادية، وإبقاء فرصة تمديد أنابيب الغاز من الخليج إلى أوروبا، مرورا بالأردن وشرق سوريا وتركيا، لتكون بديلا عن أنابيب الغاز الروسية. 

ورغم نقل كميات كبيرة من الأسلحة الأمريكية إلى القواعد العسكرية فى الأردن وشمال سوريا، فإن العجز فى عدد القوات البرية حال دون تنفبذ خطة التحرك للإطباق على أراضى دولة داعش المنهارة، لكن الخطة الأمريكية تعرضت للإنتكاسة لأسباب إضافية أهمها الانقسام داخل الإدارة الأمريكية حول حدود التورط فى سوريا، الذى يستلزم خوض معارك مباشرة بين التحالف الدولى بقيادة أمريكا والتحالف الروسى الإيرانى السوري، فالحرب المباشرة تصبح لا مفر منها إذا أرادت أمريكا تحقيق انتصار ملموس، وكشفت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية عن رغبة وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» فى زيادة حجم التدخل المباشر، وإرسال وحدات كافية من «المارينز» إلى ساحة القتال، وإلا فإن التحالف الروسى سوف يحقق انتصارا مؤثرا على موازين القوى فى المنطقة، وأدلى عدد من أعضاء مجلس الأمن القومى الأمريكى بتصريحات مؤيدة لرأى البنتاجون، بينما كان الرئيس الأمريكى ترامب وبعض أركان إدارته مع تجنب الصدام المباشر مع روسيا وإيران، لأنه سيهدد باتساع نطاق الحرب، وانعكس هذا الإنقسام فى الإدارة الأمريكية على مسرح العمليات، حيث وجهت الطائرات والصواريخ الأمريكية عدة ضربات للجيش السورى وحلفائه، آخرها إسقاط طائرة سوخوى 22 فوق بلدة الرطبة، وطائرة بدون طيار قرب الحدود الأردنية، وحركت بطاريات صواريخ أرض أرض إلى حدود سوريا مع الأردن، لكن تلك الضربات المحدودة والمترددة لم تكن مؤثرة على تقدم الجيش السورى وحلفائه، الذى اندفع بشكل مفاجئ ليقطع الطريق أمام التحرك الوشيك لخمسة آلاف مقاتل دربتهم الولايات المتحدة، يشكلون رأس حربة القوات المتقدمة نحو الصحراء السورية تحت غطاء محاربة داعش، كما اندفع الجيش السورى فى عملية مماثلة بقطع الطريق على الأكراد فى الشمال، ووصل إلى ريف الرقة، وأعلنت روسيا إلغاء اتفاق تجنب الصدام الجوى مع الطائرات الأمريكية، وعززت الدفاعات الجوية ببطاريات صواريخ إضافية تغطى شرق سوريا، وأكدت أنها ستطلق الصواريخ على أى هدف جوى يدخل مجال عمل الطائرات الروسية. 

جهت إيران أيضا رسالة واضحة عن عزمها التدخل المباشر فى القتال، وأطلقت 6 صواريخ باليستية من محافظتى كرمنشاه وكردستان الإيرانيتين لضرب معاقل داعش فى شرق سوريا، وأرسلت طائرة لتصور الأهداف قبل وفى اثناء إسقاط الصواريخ على الأهداف، وتبث الصور التى تؤكد قوة ودقة الصواريخ الإيرانية، التى قطعت 650 كيلو مترا حتى وصلت الى أهدافها عبر الأجواء العراقية، وأعلن العراق أن غرفة العمليات المشتركة مع إيران وروسيا نسقت معا هذه الضربات، وهى إشارة عراقية بالانحياز إلى جانب التحالف الروسي، سبقها تحرك قوات الحشد الشعبى لتسيطر على المنطقة الحدودية مع سوريا، وتلتقى الجيش السورى الذى وصل إلى شمال بلدة التنف، ليجرى التقاط صور تجمع قوات عراقية وسورية ومقاتلين من حزب الله اللبنانى على الحدود السورية العراقية، وتعلن سوريا تسيير شاحنات مدنية إلى العراق لأول مرة منذ اندلاع الحرب. 

وجاء تحريك تركيا مدرعاتها باتجاه المناطق الكردية فى سوريا ليعمق الشلل العسكرى الأمريكي، حيث انقلب الأتراك من حلفاء لأمريكا إلى مناوئين لها، ردا على تسليح أمريكا أكراد سوريا، وخشيتها من إقامة دولة كردية تؤدى إلى تقسيم تركيا، وهو ما أثار ذعر أكراد سوريا من الوقوع بين مطرقة الجيش التركى وسندان الجيش السوري، ولم يعد بمقدورهم التقدم لطرد بقايا داعش والسيطرة على الحدود السورية العراقية، فعدد أكراد سوريا وأسلحتهم لا تكفى لمثل هذه المواجهة. 

موازين القوى ما بعد داعش تتغير فى غير مصلحة التحالف الأمريكي، وهو ما عبر عنه السفير الأمريكى السابق فى دمشق روبرت فورد فى حديث لصحيفة الشرق الأوسط السعودية الأسبوع الماضى بقوله إن التدخل العسكرى الأمريكى المباشر تأخر كثيرا، ولم يعد بإمكانه منع الانتصار الوشيك للتحالف الروسى الإيرانى السوري، وسيكون أكراد سوريا ضحية الزج بهم فى هذه الحرب، وسيدفعون ثمنا غاليا عندما تتخلى عنهم الولايات المتحدة، فاللعبة قد انتهت «جيم أوفر».