دول المقاطعة مع قطر ضد قطرستان

 يوسف الديني

ربما من المفيد العودة إلى ما يحدث في المشهد الخليجي اليوم في مسار عكسي لفهم طبيعة الأحداث وما آلت إليه، فالمسألة ما عادت شأناً خليجياً بعد صدور مواقف دول ضد السياسة الإعلامية المزدوجة للخطاب الإعلامي في الشقيقة قطر.
يمكن القول إن تأزيم الحالة القطرية مع دول المقاطعة يعود إلى عدم الاعتراف بالمشكلة، والتي تشبه مع اختلاف الأوضاع والظروف مكابرة جماعة طالبان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، فرغم الفارق بين جماعة مارقة تحتضن كتلة من إرهابيي العالم مطالبة بإثبات الدليل، رغم تسجيلات مصورة عن مسؤوليتها عن الحادث، وقبل ذلك سلوكها على مدى عقدين في تأسيس أكبر قاعدة ميليشيا سنية مقاتلة بدعوى «الجهاد»، فإن ما تفعله الشقيقة قطر في رفضها للمطالبة الخليجية بالتخلي عن سياسات مزدوجة في التعامل مع الملف الأمني بشقيه الإعلامي والتمويلي قريب من ذلك السلوك، لكن مع فارق أن المجتمع الدولي يراهن على ما تبقى من منطق الدولة في قطر على منطق الآيديولوجيا واحتضان ودعم جماعات إسلامية ذات مشروع أممي انقلابي، الفارق أيضاً أن طالبان لم تنتظر الولايات المتحدة آنذاك مدعومة بانفرادها في المشهد الدولي كقوة عسكرية إلى التحقيق القانوني، وتم لومها من قبل المنظمات الحقوقية، بل أخذت في رد فعلها إلى أقصاه، وهو ما لم يحدث مع قطر التي حولت «المقاطعة المشروطة» بالتخلي عن سلوكها المزدوج سياسياً وإعلامياً إلى مظلومية سياسية من شأنها كسب الوقت، لكن في نهاية المطاف هناك مطالبات مرهونة بالتفاصيل حول سياسة قطر وأذرعها الإعلامية التي قادتها «الجزيرة» ثم منصاتها الإلكترونية المتنوعة المحرضة على خطاب إعلامي متطرف في مسارين متباينين؛ الأول: حين قررت التعامل مع ملف الإرهاب منذ صعود «القاعدة» كخطاب سياسي معارض للأنظمة العربية على أنه صوت الممانعة المعادي للغرب، وبدأنا نرى برامج حوارية ما بين عامي 2000 و2010، وهي موجودة في أرشيف القناة تحمل عناوين لا يمكن لأي قناة في العالم أن تبثها، اللهم إلا القنوات التابعة للتنظيمات الإرهابية من الانفراد ببيانات وخطابات زعماء الإرهاب في العالم إلى استضافة مفتي «القاعدة» أبو حفص الموريتاني في أكثر من خمسة برامج حوارية، وهو بالمناسبة رد الدين بوصف المقاطعة الخليجية بالحصار الجائر، ولاحقاً بعد تحول تنظيم القاعدة من استهداف الولايات المتحدة إلى الهجمات التي طالت الدول العربية، إلى أن أدرك العالم خطر هذا الخطاب وتمت كتابة عشرات التقارير الغربية عن دور قناة الجزيرة لا سيما في نسختها الإنجليزية إلى أن أغلقت، وظلت نسختها العربية في ممارسة الازدواجية الإعلامية في تناول ملف العنف والتنظيمات المسلحة إلى أن خبا وهج تلك التنظيمات قبل الربيع العربي الذي استحال إلى ربيع الميليشيات لاحقاً، إذ انتقلت إلى استراتيجية تتمثل في المسار الثاني: وهو دعم الخطابات التقويضية لمفهوم الدولة واستقرارها عبر رعاية الأقليات في فترة الربيع العربي وشاهدنا دورها في استثمار احتجاجات الشارع العربي وتغطياتها المنحازة التي شكلت جزءاً من جماهيريتها آنذاك لتعود إلى المسار الأول بعد انكشاف المرحلة الربيعية التي آذنت بعودة قوية للتنظيمات المتطرفة، لكن من زاوية «الديمقراطية» والتعددية السياسية التي كفرت بها من ذي قبل.
فيما يخص دول الخليج وتحديداً السعودية التي كانت أكبر الدول معاناة من هذا الخطاب المزدوج لا سيما بعد استهداف «القاعدة» لها ولاحقاً تنظيم داعش أو تنظيم الدولة كما تصفه قناة الجزيرة وتصف كل رموزه بالمقاتلين في التعريف بهم، بل وتعتمد ذلك كسياسة تحريرية، وبحسب مجلة «ناشيونال ريفيو» المتخصصة في سياسات الشرق الأوسط، فإنه بعد إحدى الهجمات الإرهابية في ليبيا تم إرسال بريد إلكتروني داخلي، حصلت مجلة «المجلة» على نسخة منه، مرسل من قبل المدير التنفيذي للجزيرة النسخة الإنجليزية كارلوس فان ميك يطلب من موظفيه الامتناع عن الوصف بمفردتي متطرفين أو راديكاليين، «لأن من نعتبرهم كذلك يعتبرهم غيرنا مقاتلين من أجل الحرية!» وهذه طريقة الخطاب الإعلامي المزدوج لـ«الجزيرة» القطرية في استضافة شخصيات منظرة في دعم تلك الجماعات المتطرفة من محامين ومعلقين سياسيين ضد الخليج، يظهرون في كل مناسبة تقريباً للحديث عن نضال منظري «القاعدة» ضد دول الخليج، وبدا ذلك جلياً في تغطية الحرب على أفغانستان وبث خطابات بن لادن محفوفة بتعليقات الضيوف الباذخة في المديح، حتى بعد زوال قوة «القاعدة» إذ خصت القناة مشاهديها بحلقة مثيرة بعنوان «رسالة بن لادن الأخيرة» بتاريخ 16/ 2/ 2005 ليحضر كالعادة أحد الضيوف ويقول: «ما طرحه الشيخ أسامة بن لادن هو مشروع سياسي ديني متكامل موجَّه إلى الأمة وإلى الشباب على وجه الخصوص، يعني أراد أن يتناول فيه الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، أصدر كثيراً من الفتاوى التي تنطوي على درجة كبيرة من الأهمية، يعني أصَّل لبعض الأشياء، مثلاً قال إنها ليست حرباً ضد الإرهاب، وإنما هي حرب صليبية، حرب ضد الإسلام والمسلمين»، وبالطبع عذر القناة الجاهز وهي أقرب للحيلة القانونية منها إلى السلوك الإعلامي المهني والأخلاقي أنها مسؤولية الضيوف، هذا الاستقطاب المتحيز للضيوف كان محط أنظار الباحثين الغربيين في الإعلام، في عام 2007 كتبت كريستيين مقالة شهيرة بمجلة «ويكلي» الأسبوعية وجهت فيها نقداً لاذعاً لتكرار بث اللقطات المروعة للتنظيمات المسلحة على القناة، منتقدة الرسالة المزدوجة والشخصيات الراديكالية التي يتم استضافتها وتبجيلها كصوت مناهض للسلطة وللولايات المتحدة من ورائها.
ما حدث من جدل كبير داخل الولايات المتحدة على أداء «الجزيرة» الإنجليزية، هو ما يحدث اليوم بشكل أكثر صرامة من قبل الدول المقاطعة لسياسات قطر المزدوجة.
ما لم يصل إلى الشقيقة قطر بشكل جيد هو أن ثمة لحظة فارقة فيما يخص أولوية الأمن في الخليج وبسياقات جديدة تقدم أولوية الاستقرار ضد منطق المقامرة لأسباب سياسية، فالتحديات والتحولات التي تمرّ بها المنطقة كبيرة، وهي باتت تؤثر على طبيعة الحراك السياسي والاجتماعي في الخليج أكثر من أي وقت مضى بسبب طفرة وسائل الاتصال وهشاشة المحتوى.
هناك تحول كبير يجري في بنية المشهد الخليجي، ليس فقط على مستوى السياسات العامة التي تمسك بزمامها الدول، ولكنه تحول على مستوى مكونات المجتمع الخليجي السياسية والاجتماعية، بسبب تحول جذري وراديكالي في مصادر التلقي والخطابات السائدة، هناك، ما لا تخطئ العين، تراجع للإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، والخطاب الشمولي الأممي لم يعد يشنف الآذان كما في السابق، حيث تبدلت المفاهيم حول الدولة والسلطة والأداء الحكومي، وتبدلت أولويات الخطابات الجديدة من عزل مفاهيم طوباوية لا مكان لها في سوق السياسة بعد أن اكتشفت كثير من الدول أنها مهددة بأطماع وطموحات عابرة للحدود ومن أطراف متعددة، باختصار لم يعد مقبولاً اليوم أن يفتي شيخ قناة الرأي والرأي الآخر بأن العمليات الانتحارية اجتهاد متروك للجماعة، أو يفتي على الهواء ويهيب بوجوب اغتيال رئيس دولة رداً على تصفيته للثوار، ما ترفضه دول الخليج أن تكون وسيلة إعلامية «اليد اليمنى للفوضى»، بحسب داون براون في رائعته «ملائكة وشياطين».