غسان الإمام

في التاريخ المعروف، كانت الحروب شكلا من أشكال الفروسية. المنطوية على الشجاعة. والإقدام. والتضحية. والشهامة... كل هذه الصفات يقتضيها الالتحام المباشر بين الأجساد. فالسلاح الأبيض (السيف. الرمح. المطرقة. الترس...) يفرض اختصار المسافة بين المتقاتلين.


هذه الحروب لم تعرف اللجوء إلى تجنيد المرتزقة. أو الحرب بالواسطة. كانت الحروب صناعة يمتهنها أبناء الدولة الأصليون. كانت واجبا مفروضا أو مطلوبا من طبقة معينة. طبقة مهابة. تحظى بالاحترام والتقدير. فهي جاهزة دائما للدفاع عن الوطن، إذا تعرض لخطر الغزو الخارجي. أو للاندفاع خارج الوطن لتأمينه. وليغدو عمقا استراتيجيا لجيوشه المنتشرة في القريب أو البعيد.
بمعنى آخر، فقد كانت حروب الزمن الماضي تفرض تدريبا قاسيا لجسم المقاتل. ليتقن رشاقة الحركة السريعة. وتقنية الكر والفر. والانسحاب والهجوم. والتنسيق المنضبط مع الكتيبة والفرقة اللتين ينتسب إليهما. كذلك لا بد للمقاتل أن يتقن استخدام السلاح الأبيض. وكلما امتلكت الدولة أو الإمبراطورية جيشا يتحلى بهذه الصفات. والمعنويات. والأسلحة، كانت قدرتها على المواجهة والمناورة أوسع.
بل كان استعداد الدولة أو الإمبراطورية للحرب كافيا لمنع نشوبها، إذا عرف العدو كيف يقدر القوة التي عليه أن يقاتلها. من هنا نشأ مبدأ «توازن الرعب» الذي له حساب كبير في استراتيجية منع الحروب في العصر الحديث. عندما يختل هذا المبدأ، كانت إسبرطة «المدينة الرياضية» قادرة على احتلال وإخضاع شقيقتها أثينا «المدينة المفكرة» الأكثر فائدة لإنتاج الثقافة والحضارة.
مع ذلك، عرف التاريخ القديم نوعا من الارتزاق. أو بالأحرى شكلا من أشكال «استئجار» الأقوى للأضعف. فقد قبل العرب المناذرة المرابطون على تخوم الصحراء العراقية حماية الدولة الساسانية (الفارسية) لهم، في مقابل أن يكونوا حماة لحدودها الصحراوية المتطرفة. وقبل العرب الغساسنة حماية الإمبراطورية الرومانية لهم، في مقابل أن يكونوا «جرس إنذار» ينبهها إلى خطرٍ ما يهددها، مقبلٍ من الصحراء العربية.
على كل حال، لم يكن الغساسنة والمناذرة يعتبرون أنفسهم مرتزقة. فقد قاتل الغساسنة الذين نصّرتهم الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة) مع إخوتهم العرب المسلمين الذين حرروا الشام من الرومان. أما المناذرة فما لبثوا أن اندمجوا في العروبة والإسلام. وتركوا كسرى يجلد بحر الخليج الذي لم يُغرق العرب الفاتحين للعراق ولإيران.
الدولة العربية التي رفضت أن تكون دولة مرتزقة، هي دولة تدمر النبطية. فقد بلغت أوج ازدهارها. وعمرانها. وقوتها في عهد ملكتها زنوبيا. أو بالأحرى الوصية على العرش والحكم. وقد أخضعها الإمبراطور الروماني أوريليانوس في حرب ضروس. دمر فيها عاصمتها تدمر. وبقيت آثارها وأعمدتها الشاهقة دليلا على حضارتها. وقد دمر تنظيم داعش البدائي الغاشم جانبا من هذا الإرث العربي النبيل.
عندما أصبحت «السياسة»، في العصر الحديث، «حربا بوسائل أخرى»، اتجهت دول كبرى وإقليمية إلى تجنيد واستئجار مرتزقة ليخوضوا حروبها. وباتت هذه الظاهرة أحد معالم السلم والحرب في القرن الميلادي الحالي.
كانت أفريقيا بالذات مسرحا لحروب مهلكة مات فيها الملايين (في الكونغو. رواندا. بوروندي. الصومال. إثيوبيا. إريتريا...)، وأدارتها بالـ«ريموت كونترول» دول أوروبية كبرى. وأرسل الزعيم الكوبي فيدل كاسترو جيشا إلى أفريقيا، لمساعدة دول يسارية للتخلص نهائيا من الاستعمار.
بل استخدمت إسرائيل مرتين كدولة مرتزقة للإيقاع بالعرب. في حرب السويس (1956)، كانت إسرائيل ضلع المؤامرة الثلاثية (مع فرنسا وبريطانيا) لضرب نظام عبد الناصر، واسترجاع السيطرة على قناة السويس. وأنقذته أميركا آيزنهاور، بإجبار الدول الثلاث على الانسحاب.
ثم استعملت أميركا/ ليندون جونسون إسرائيل في حرب «النكسة»، لإلحاق هزيمة ماحقة بعبد الناصر والمشروع القومي العربي. ولم يُعرف إلى الآن الدور الذي ربما لعبه النظام الطائفي السوري، في توريط عبد الناصر، في حرب لم يكن مستعدا لها.
الأطرف والأغرب أن أميركا/ بوش الثاني بدت هي نفسها دولة كبرى مستأجَرة لحساب أحزاب طائفية عراقية، لإسقاط نظام صدام. نعم، كان صدام عبئا ثقيلا على العرب، وعلى النظام الدولي. ولم يكن بد من تغييره. لكن تسليم أميركا بوش وأوباما العراق لأعوان إيران كان خطأ استراتيجيا كبيرا، أدى إلى ازدهار إرهاب «داعش» انتقاما من الشيعة وأميركا. وفقد العرب العراق، كجدار شرقي حام للأمة العربية. ومكَّن إيران من الهيمنة على سوريا. ولبنان. وحماس. والتسلل إلى اليمن.
في إيران نظام مفترس. فقد جند تنظيمات وميليشيات متعددة الجنسيات، كمرتزقة تقاتل لحسابه، لكي يتجنب الاتهام الدولي والعربي له، بالتورط المباشر في الحروب التي تزلزل استقرار وأمن المنطقة العربية.
قلت وكررت منذ أسابيع أن هناك جيشا إيرانيا حقيقيا من المرتزقة، يقاتل في صحراء سورية تقترب الحرارة فيها من 50 درجة، تحت قيادة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس». لا للوصول إلى القدس. وإنما للوصول إلى الرقة ودير الزور. ومنع أميركا ومرتزقتها الأكراد من الحلول محل «داعش» في شرق سوريا.
هناك حرب دولية - إقليمية في بادية الشام. تشارك فيها أميركا. أوروبا. تركيا. دول خليجية، بجيوش من المرتزقة: أكراد. لبنانيين. سوريين. عراقيين. مصريين. خليجيين. شيشان. أفغان... واستقدم سليماني معه إلى الصحراء ميليشيا «الفاطميون» من المرتزقة الإسماعيليين الكزخ في شمال أفغانستان.
خَيَّرت إيران مليوني شيعي أفغاني مقيمين لديها، بين العودة مع أسرهم إلى أفغانستان. أو القتال كمرتزقة في سوريا. والاستيطان فيها. لم تقتل الصواريخ الإيرانية «دواعش» الرقة، كما زعمت إيران. إنما أصابت المرتزقة الأكراد المقاتلين لحساب أميركا في المدينة المنكوبة. لحمايتهم، فقد أسقطت أميركا طائرتين للنظام السوري الذي لم يبق لديه سوى الطيران للقتال. فقد فر. أو قتل. وجرح. وفقد نحو 400 ألف مجند كانوا يشكلون الجيش النظامي.
ستصل جيوش المرتزقة إلى الرقة. ودير الزور. سوف تنطلق هناك حرب مرتزقة جديدة. وقد تصل إلى مواجهة بين روسيا التي استأجرتها إيران. وأميركا التي استأجرها الانفصاليون الأكراد، لاستكمال إقامة دولتهم على أشلاء سوريا.