يوسف مكي


لا شك أن انحياز الغرب المستمر، للكيان الصهيوني، والحروب الغربية المتكررة على العرب، كما في العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، واعتداءات أخرى على لبنان وليبيا والسودان واليمن، جعلت المواطن العربي ينظر بعين الشك والريبة لأطروحات الإصلاح السياسي التي تطرحها دوائر غربية بين فينة وأخرى. 


وفي سياق معارضة الدعوات الغربية للإصلاح السياسي، تطرح قضية الخصوصية بقوة، كذريعة لتكريس التخلف وتأجيل الإصلاحات السياسية بالوطن العربي. وفي هذا الاتجاه يصدمنا موقفان، يبدوان متعارضين في الظاهر، لكن العلاقة بينهما تكاملية. 
فالخصوصية الإنسانية التي ينبغي التسليم بها، هي ليست التي تحجب التطور والتنمية والتسليم بالحقوق، بما في ذلك حق الناس في تقرير مصائرهم. وهي أيضاً ليست خصوصية ساكنة وعصية على التغيير. إنها خصوصية مجتمعية وتاريخية، كما يقول محمد أمين العالم. ولأنها تاريخية، فهي نتاج حركة وتطور، تتغير باستمرار.. إنها هوية وبصمة لإنسان في زمن ما، ولأن الزمن لا يقف بطبيعته فإن الهوية والبصمة تتحركان في تجانس واضح معه. 
وينعكس ذلك بكل تأكيد على الأوضاع والخبرات والأحوال، وتنامي أشكال الوعي والثقافات والمنجزات والإرادات والمصالح المختلفة. وهكذا فإن القول بوجود ثقافات وتقاليد راسخة عصية على التغيير، هو وجه آخر للقول بتهميش الهوية بل وطمسها موضوعياً وإنسانياً، وبالتالي تجميد المجتمع وقضاء على التاريخ.
وعلى هذا الأساس، فإن الحديث عن مرحلة تاريخية، هو حديث عن سيرورة، وعن مكتسبات ومنجزات وأفكار وقيم وعقائد وأعراف ليس لها صفة الثبات. إن المهم في الهوية ألا تشكل انقطاعاً، بل أن تأخذ موقعها في سلسلة متواصلة وممتدة تتجه إلى أمام، ولكنها لا تتماثل أبداً.
وهكذا نصل إلى نتيجة مؤداها أن الهوية ليست معياراً مرجعياً ناجزاً ونهائياً لمجتمع ما، بل هي مشروع متطور وفاعل، منفتح على المستقبل.
النقطة الأخرى التي يجدر التنبه إليها هي أن عصرنا الراهن هو عصر حضارة واحدة، تمتد لأول مرة في التاريخ عبر الكرة الأرضية بأشملها. وهي حضارة اخترقت نسيج كل المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك الشعوب والأمم التي ترفض هيمنة الغرب وتناضل ضدها. 
ومن يرفض هذا القول فما عليه سوى مراجعة قدرته العقلية، وأن يتلفت يمنة ويسرة داخل منزله ليرى بأم عينيه نوعية الأثاث والأدوات والملابس التي يستخدمها. ليس ذلك فحسب، فإن ذلك يجد له تكريساً في الشارع والمدرسة ومقر العمل، وأماكن التسوق، وفي اللوائح والتشريعات وأنظمة العمل.. 
هكذا فإن الحضارة الإنسانية واحدة الآن، شئنا أم أبينا ذلك. صحيح أن المستوى الحضاري يختلف بين بلد وآخر. يختلف بين من يسهمون في إنتاج هذه الحضارة، وبين من يقفون عند حدود الاستهلاك لمنجزاتها، أو في أحسن الأحوال، المساهمة في إنتاج هامشي طفيلي فيها. إنها حضارة الإنتاج الصناعي. وذلك يفسر سبب اقتحامها للكون. 
إن كون هذه الحضارة تعبر أساساً عن نمط الإنتاج الرأسمالي، في هذه اللحظة من التاريخ، يجعلها لا تقف عند حدود معينة، بل تمتد إلى مختلف أصقاع الأرض، من حيث الإنتاج والاستهلاك. ولا شك أن ذلك يلقي بظلاله بقوة على الجوانب المادية والعملية والجوانب المعنوية والقيمية. من خلال السعي نحو الربح والسيطرة والتوسع تتحقق العولمة والوحدة الحضارية، بمختلف تشعباتها الاقتصادية والثقافية والسياسية والأيديولوجية. 
ولذلك يصبح مفهوم استعارتنا المستمرة، منذ بدأنا لهاثنا الدؤوب للبحث عن هوية، مع غياب المشروع التأسيسي لها، لمفردات واردة، بعيدة عن محيطنا، استعرنا منذ مطلع القرن المنصرم مفاهيم كثيرة، عبرت كل منها عن مرحلة تاريخية وافدة، أكثر مما عبرت عن حاجاتنا وآمالنا وطموحاتنا. 
وكان بعض تلك المفاهيم جميلاً وحالماً، ولكنه لم يتوفر له من يجيد غرسه، وبعضها الآخر، كان عبئاً ثقيلاً جثم على كاهلنا طويلاً، كالحماية والانتداب والوصاية، ورحل بعد أن انتهت مرحلته، لتحل مكانه مفاهيم أخرى وافدة سادت بعد رحيل الاستعمار، كالتحرر الوطني والعصرنة والحرية والمساواة والعدل الاجتماعي والوحدة، لكننا أيضاً بقينا نتعامل معها بقانون الفعل ورد الفعل، وانتهت في ليلة ريح عاصفة في صيف قاس في يونيو/حزيران عام 1967، لتحل مكانها لاءات ثلاث باهتة، ما لبثت أن استعيض عنها بالتسليم بالأمر الواقع ومحاولة كسر الحاجز النفسي والتطبيع وإعطاء قوة دفع للسلام، وسلام الشجعان والمبادرة.
ليس مطلوباً منا أن نتحدث كثيراً عن الخصوصية ولا عن الكونية، وأن نكون صدى شاحباً لتيارات عاصفة وافدة لا يمكننا مواجهتها والصمود في وجهها. ومطلب الإصلاح ينبغي الانتقال به من الحديث عنه باعتباره شأناً داخلياً إلى الالتزام الاستراتيجي بتحقيقه، والفارق كبير بين الأمرين. 
الإصلاح الوافد جزء من نمط الإنتاج الرأسمالي تحكمه قوانين الربح والمنفعة والهيمنة، وهو في الأخير لن يكون إلا استجابة منفعلة لإملاءات خارجية. أما الإصلاح الحقيقي، فهو ذلك الذي تختاره الأمة بمحض إرادتها، وليس مرتهناً لضغوط ومصالح خارجية. إنه الإصلاح الذي يزج بجميع أبناء الوطن في معمعان المشاركة السياسية وصناعة القرار، ويكون عمقه الأمة، وبوصلته مصلحة أبنائها، وهو إصلاح غير منفعل، يثق بالحاضر ويتطلع إلى المستقبل، ويوازن بوعي وعمق بين الوطنية وبين كوننا جزءاً من عالم فوَّار متحرك. إنها الموازنة بين الوطنية والانتماء للأمة وبين الكونية.