ناصر الحزيمي

عرف عن مكة المكرمة أنها أقدس بقاع الأرض، وهذه الرؤية لهذه البقعة المباركة معروفة منذ العصر الجاهلي، وجاء الإسلام وأكد عليها بنصوص قطعية من الكتاب والسنة المطهرة، والتي أكدت هذا المفهوم الذي سار عليه المسلمون الأوائل حتى غدت بقعة آمنة مقدسة،

فالنفوس التقية تتورع في حرمها عن ممارسة الذنوب والكبائر، فهي مكان للعبادة والمحبة والسلام، حتى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة قال إنها أحلت لي ساعة من نهار، لذلك نجد أنها وعبر القرون المتلاحقة تزداد بهاء وجمالا وأمنا، بل إن ما يتفاخر به ولاة مكة منذ القدم قد حققوا الأمن والأمان في مواسم الحج؛ وغالبا أن مكة لا يستحل أمنها وحرمها إلا قليل الإيمان قليل الورع والتقوى. فلو تأملنا النصوص التي حكت وقائع استحلال الحرم المكي لوجدنا مثالا في واقعة الحجاج بن يوسف الثقفي التي ضرب فيها الحرم بالمنجنيق لوجدنا أن هذه الواقعة من أكبر مثالب الحجاج، متقدمة على كونه ظالما سفاكا للدماء. وكذلك واقعة القرامطة التي استحلوا فيها الحرم المكي واستباحوها، وقتلوا أهلها وأخذوا معهم الحجر الاسود، فهذه الواقعة كانت هي المبرر الأكبر للعمل على تكفيرهم ونفيهم من ربقة الإسلام، يضاف إلى ذلك ما عرف عنهم من تعطيل الشرائع، وانقلابهم على نصوص القرآن الكريم والواقعة الثالثة التي استحل فيها الحرم بالسلاح كانت واقعة جهيمان العتيبي، ولأنني قد أدركت وعايشت مقدمات هذه الواقعة فسوف أحكي ما حدث، فقبل دخولهم الحرم المكي لمبايعة المهدي المزعوم بثمانية شهور تقريبا دار سجال بين كوادر الجماعة حول هل -محمد عبدالله القحطاني هو المهدي فعلا وحول هل يجوز الدخول إلى الحرم المكي بالسلاح؟ وحدث هذا السجال في الرياض في الفترة التي أرسل فيها جهيمان مجموعة من أتباعه لبعض المناطق لكي يحثهم على التجمع في مكة في موسم حج 1399هـ، وكان السجال على أشده حول حرمة الدخول إلى مكة بالسلاح، وحرمة حمل السلاح، وكان الشخص الذي جاء يجادل دخول مكة بالسلاح هو عيد الشافعي، وهو مندوب جهيمان لهذه الغاية، وكما قلنا سابقا في مقالات أخرى قد تزوج بعد ذلك أخت محمد عبدالله القحطاني، ونعود إلى ما حدث بعد هذا السجال فحينما رأى عيد الشافعي الأدلة التي كان يأتي بها مجموعة من الشباب الرافضين لدخول الحرم بالسلاح، بل أن جلهم قد رفض قضية المهدي المنتظر وتحديدا لمحمد عبدالله القحطاني، وأنا هنا أتكلم عن واقعة حضور عيد للرياض وأصبح عيد يعطي الشباب وعودا بأنه لن يكون هنالك إطلاق للنار، ولن يستعمل السلاح في الحرم، إلا أن الشباب أجابوه أنهم يرفضون أصلا من حيث المبدأ دخول الحرم، وحقيقة وبعد هذه السنين، وكلما تأملت الجهد الذي بذله بعض الشباب في تفنيد شبهات دخول الحرم والتي نجوا بسببها من الخوض في المشاركة الفعلية في هذه الفتنة حمدت ربي على هذا التوفيق فالمسألة أكبر بكثير من دخول الحرم بالسلاح، واستحلال الحرم الآمن، فالتورع عن الخوض في مثل هذه الأمور التي تضل تعتبر من تقوى القلوب ومن الثوابت التي يجب أن تكون في نفس

هؤلاء الأغيلمة المدفوعون بالخطاب الضال وراءهم من ينظر للعنف؛ فقد يكون أي شاب من هؤلاء الشباب ممن يتبنون هذا الفكر لا يحسنون الوضوء ولا يحسنون قراءة الفاتحة، ويستعجلون الذهاب إلى حور عين، وأنا أشك فعلا في ذهابهم إلى هناك..

المؤمن. فقد استحلت هذه المجموعة الحرم المكي لمدة خمسة عشر يوما يطلقون فيها النار، علما أنه قد علموا بخطأ دخولهم للحرم وفشل مشروعهم المهدوي في اليوم الثالث. لقد كانت مكة وحرمها وكما أشرنا سابقا إلى ذلك حرم للشجر ومايسكنها من أناس وطيور منذ الأيام الأولى للإسلام، فكيف تكسر هذه الحرمة بمفاهيم خاطئة بنيت على الرؤى والأحلام ! إن حضور الورع والتقوى الدائم عند الإنسان يقيه من الكثير من الشرور والآثام، إلا أننا نلاحظ أن الجماعات الإرهابية التي استحلت وتستحل الحرمات بالشبهات والأفهام العقيمة تعيد الكرة هذه الأيام باستحلالها حرمة الحرم المكي، كما استحلت في العام الماضي حرمة الحرم المدني، فهل يملك هؤلاء شيئا من العلم أو الورع والتقوى، ألم يقرأ هؤلاء الشباب ما جاء في الكتاب الكريم والسنة المطهرة من منع عن استحلال الحرمين الشريفين، ولعل من يعرف طريقة تجنيد مثل هؤلاء الشباب سوف يعرف أنهم محدودي المعرفة والثقافة، إن فقدان الورع والسير خلف كل ناعق بالشبهات لا شك أنه ينتج مثل هذه المجموعات، ولو تأملوا مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وقوله إنها أحلت لي ساعة من زمان ليعلن أن مكة محرمة بالرغم من وجود كفار قريش وهيمنتهم عليها وعلو كلمتهم فيها وبالرغم من ذلك هي حرم آمن لم يحل للرسول بالسلاح إلا ساعة من نهار.

وكما نعرف أن هؤلاء الأغيلمة المدفوعون بالخطاب الضال وراءهم من ينظر للعنف، فقد يكون أي شاب من هؤلاء الشباب الذين يتبنون هذا الفكر لا يحسنون الوضوء ولا يحسنون قراءة الفاتحة ويستعجلون الذهاب إلى حور عين، وأنا أشك فعلا في ذهابهم إلى هناك.

إن أعمال القلوب حقيقة قد أهملت كثيرا في الخطاب الدعوي والوعظي، وهو أمر مهم يجب أن يكرس في صدور الشباب، ويجب أن يكون الورع والتقوى في الخطاب مقدما على المظاهر من غير نسيانها.