إياد أبو شقرا 

شهدت العاصمة الفرنسية أمس تجمعا حاشدا للمعارضة الإيرانية، شاركت فيه نخبة من الشخصيات العالمية. وجاء توقيت هذا التجمّع في مرحلة تاريخية استثنائية من عمر منطقة الشرق الأوسط والعلاقات المشدودة بين كياناتها. وكما هو متوقع من مناسبة كهذه، كانت النبرة الأقوى للخطباء الإيرانيين والعرب والغربيين، تصب في اتجاه استحالة جنوح نظام له طبيعة نظام طهران إلى الاعتدال... مهما كانت المُغريات.


وحقاً، فإن الرهان على «عقلانية» نظام طهران وكونه «غير انتحاري»، وفق التعبير الذي استخدمه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لتسويق الاتفاق النووي، يثبت عبثيته في كل يوم. وعلى الرغم من فظائع «داعش» وتدميره الممنهج لكل مكان حل فيه، بالتعاون غير المباشر مع القوى المستفيدة من تطرفه، يظهر للعيان أمران:
الأول، أن الميليشيات المذهبية الإيرانية وتلك التي تدعمها إيران عبر الحرس الثوري لا تختلف كثيرا عن «داعش» من حيث ممارساتها العنفية الإلغائية المبرّرة بشرعية دينية مذهبية مزعومة.
والثاني، أن الفارق ضئيل جدا بين التطرّف المموه بلغة دبلوماسية حضارية كما تعكسه خطابيات الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف من جهة، والتطرف المذهبي - العسكري الصريح الذي يتجلّى في «عنتريات» جنرالات الحرس الثوري من محمد علي جعفري إلى قاسم سليماني ومنه إلى ميليشياويي العراق ولبنان واليمن وسوريا من جهة أخرى. لا بل نراه يتبخّر تماما عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع العالم العربي، وبالأخص، الخليج والهلال الخصيب واليمن.
مفهوم أن توق إيران للعب دور إقليمي قيادي على مستوى الشرق الأوسط لم يبدأ مع «الثورة الخمينية» عندما أطلقت شعار «تصدير الثورة»، وألحقته بمزايدتها في موضوع «تحرير فلسطين». فكما نذكر، كانت «إيران الشاه» من أركان «حلف بغداد» عام 1955 بجانب بريطانيا وتركيا وباكستان والعراق تحت رعاية الولايات المتحدة، وذلك قبل انسحاب العراق، ليُعرف الحلف لاحقا بـ«الحلف الأوسط» CENTO. وبعدها كان الشاه صريحا في رغبته بأن يكون «شرطي الخليج»، لا سيما، أن إيران هي كبرى الدول المطلة على الخليج من حيث عدد السكان.
غير أن الفارق الكبير بين طموح زعيم إقليمي لتعزيز نفوذ بلده من منطلق اقتناعه بحضارتها وإمكانياتها، وبين إصرار نظام ديني - مذهبي على تصدير «شرعيته» السياسية والدينية إلى محيطه بقوة السلاح، والتآمر لقلب أنظمة الحكم عبر التحريض وإثارة النزعات المذهبية.
منذ 1979 كان مشروع «تصدير الثورة» - مع مفهوم «الولي الفقيه» - في صلب فلسفة النظام الذي أسسه آية الله الخميني، والذي يستمر اليوم مع خلفه علي خامنئي. ومع أن المشروع انتكس مؤقتا مع الحرب العراقية - الإيرانية التي أنهيت دوليا بوضع حد لطموح إيران في حينه، لكن النكسة العابرة لم تعطله، بل واصلت القيادة في طهران زرع بذور التبعية التنظيمية المذهبية والعسكرية. وكانت الباكورة في لبنان عبر تنظيم «أمل الإسلامية» ومن ثم «حزب الله»، والعراق مع الفصائل العراقية التي قاتلت في صفوف القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي... وبعض قادتها اليوم في مواقع السلطة الفعلية في العراق.
وفي حين ينبغي تذكر أن نظام الرئيس السوري حافظ الأسد كان مؤيدا لإيران في حربها على العراق، وأن السفير الإيراني في دمشق يومذاك علي أكبر محتشمي بور (الذي صار وزير داخلية لاحقاً) هو الذي أُوكل بتأسيس «حزب الله» في لبنان، فإن الجهود الإيرانية لم تقتصر على «البذر» في العراق وسوريا ولبنان، بل نشطت تدريجيا في اليمن عبر الحركة الحوثية، وفي البحرين عن طريق عدد من الملالي الذين لا تشغل بالهم المطالبة الإيرانية المزمنة بالبحرين.
أيضاً، لم تقتصر جهود طهران على التنظيمات الشيعية، بل عملت على رعاية تنظيمات مسلحة سنّية، ولا سيما في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكانت غايتها في ذلك بعيدة النظر. ذلك أن دعم تنظيمات سنّية في فلسطين، بالذات، يعطي صدقية كبيرة لشعاراتها الخاصة بتحرير فلسطين من ناحية، ومن ناحية أخرى يسمح لها بإنشاء ميليشيات شيعية وتسليحها من دون أن تتهم بالتمييز المذهبي. وهذا، بالضبط ما حصل. بل في بعض الحالات، تحت شعار «وحدة المسلمين» رعت تأسيس تجمّعات شيعية - سنّية تدافع عن مواقفها وتتبناها.
في الأسبوع الماضي تكلم السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله» اللبناني، فقال: «إن حربا تنوي إسرائيل شنّها على لبنان وسوريا لن تبقى محصورة في هذين الميدانين، وستفتح الباب أمام انضمام آلاف المقاتلين من العراق واليمن وإيران وأفغانستان وباكستان وبقاع أخرى في العالم إلى جانب سوريا والمقاومة».
والمعنى هنا واضح، وهو جاهزيته لدعوة الحرس الثوري الإيراني نفسه إلى لبنان، من دون مشاورة الحكومة التي يتمثل فيها الحزب. كذلك طمأننا حسين دهقان وزير الدفاع الإيراني إلى أن «العراق جزء من إيران»... وهذا بعد كلام وزير الاستخبارات السابق حيدر مصلحي الشهير بأن «إيران تسيطر على أربع عواصم عربية».
من ناحية أخرى، برّرت طهران مباشرة وعلى ألسنة قادة الميليشيات التابعة لها الحرب التهجيرية التي شنتها في سوريا منذ ثورة 2011 - وكذلك في العراق - بمواجهة «التكفير» و«التكفيريين»، وكان ضمن هؤلاء «القاعدة» و«جبهة النصرة»، وطبعا «داعش». ولكن في المقابل، ما عاد سرا وجود اتصالات وتفاهمات قديمة بين «القاعدة» وجهات في نظام طهران جنّبت إيران الاستهداف، كما أنه ليس سرا أن «داعش» لم يقاتل نظام بشار الأسد بقدر مقاتلته الثوار، وبالأخص «الجيش السوري الحر». ثم إن دور النظام السوري في تسهيل وصول المتشددين عبر الحدود السورية إلى العراق معروف وموثّق، تماما مثل «فرار» متشدّدين من سجون العراق إلى سوريا للانضمام إلى «داعش».
واليوم بعد الاستفادة من «داعش» لتدمير عدد من مدن سوريا والعراق، يغدو ملحا التساؤل عن إمكانية التعايش مع القيادة الإيرانية الحالية؟
أمس في باريس قال ألوف الإيرانيين الذين هجّرهم النظام كلمتهم، كما قالها قبلا الملايين في إيران نفسها: لا تعايش مع هذا النظام، فكيف نستطيع نحن العرب التعايش معه؟!