مجاهد عبدالمتعالي

من حقنا النظر إلى الحقيقة كأفق تسعى إليه البشرية، ومهما ارتحلنا إلى الأمام سيبقى هناك أفق نرجوه، وفي هذا حث فطري للنفس البشرية للسعي نحو الكمال وتذكير لها بالنقص الدائم

التاريخ خير شاهد على أن الأديان حينما تدخل في معادلات السياسة تتحول إلى أيديولوجيا تحتاج إلى معركة دائمة مع العالم. ومن المثير الذي لم يلتفت إليه الكثير في التاريخ الإسلامي أن الرسول الكريم في حالة المعارك والحروب، كان يمثل نفسه قائدا بشريا وليس نبيا، ولهذا يتدخل أصحاب الخبرة والرأي والمشورة في تفاصيل إعداد المعركة، وهو يفصل فيها كقائد بشري وليس كنبي معصوم، وفي النهاية يعد المسلمين بإحدى الحسنيين: النصر على الأعداء بصفته بشرا، أو الشهادة ودخول الجنة بصفته نبيا، مع عدم القطع بجنة ولا نار، إذ وضع ضوابط روحيه خاصة بنية المقاتل كفرد مستقل أثناء القتال «ليقال شجاع، أو عصبية وحمية، أو بحثا عن الغنائم، أو لتكون كلمة الله هي العليا». وهنا المفارقة الغائبة ربما على كثير من قراء السيرة، بينما في العصر الحديث يتعاطى الإسلام السياسي المسألة الدينية باستدماج يحاول أن يطرح في نفسه امتيازات تفوق مقام النبوة، لنسمع أحدهم وهو يقسم من على المنبر أن الملائكة تقاتل مع الفصيل الفلاني، ليرد الشيخ من الفئة الأخرى بأن الملائكة معه، ليتشكل خطابا أيديولوجيا يقتات بأتباعه في موقد ثورات يسمونها جهادا، والجهاد الحقيقي في هذا الزمن هو نضال لا تختلف عليه البشرية في قوانينها وأعرافها الدولية، ويسمى «حق تقرير المصير»، وعليه قام الاعتراف الدولي بحركات التحرر الوطني في سبيل الاستقلال، أو حق تقرير المصير كما آلت الأمور في بعض دول أوروبا الشرقية للتشظي بعد «سقوط الخطر الشيوعي»، فلماذا نستثني بعض دول الشرق الأوسط من مآلات أوروبا الشرقية بعد «سقوط الخطر الإسلاموي»، وما صار في السودان قابل للتكرار.
طهران لبست قفاز «الجمهورية» أمام العالم، واليد التي تحتها لا تختلف عن يد القرون الوسطى، فهل يوجد غير إيران من يجد له في سوق القفازات أسماء أخرى؟ لينطبق عليه «عدوك صاحب صنعتك».
صدام والخميني مثلا، عمَّدا دخولهما المعترك السياسي بالدم، تصفيةً للخصوم من أبناء شعبهما في سبيل كرسي الحكم، ومن يدافع عن صدام بقوله: «من كان بلا خطيئة فليرمها بحجر»، يتناسى أن في ذلك تبريرا للخميني، بل وتبريرا لكل سياسي آخر قامت شرعيته على الدم، ليكرع العرب من كأس الفصام النفسي الذي لا يملون شربه، لأن خطيئة المرأة بجسدها فقط، وذو المروءة يسترها بطرف ثوب، أما خطيئة السياسي فعلى جماجم شعبه فمن يخفي الشمس بغربال؟!.
قد يقول قائل: ما بال إسرائيل أصبحت ضمن المسكوت عنه في الخطاب السياسثقافي، وهذا ليس بالضرورة صحيحا، ولكن إسرائيل عندما تقتل فهي بالتأكيد لا تقتل شعبها، وعندما تضطهد وتسجن لا تزعم أنها تسجن بني جلدتها، إلا لمحاربة فسادها الداخلي ولو بسجن رئيس وزرائها السابق إيهود أولمرت، وهي عنصرية نعم، هي بصهيونيتها رمز للعنصرية التاريخية التي تستعيد الدياسبورا لتسقيها الفلسطينيين رغما عنهم، فتراهم في كل أنحاء المعمورة، كحالة مقلوبة يتحول فيها اليهودي إلى حالة سادومازوخية مزمنة، بسادية ضد كل ما هو فلسطيني، ومازوخية تستجر المحرقة في كل منعطف.
ما المخرج الثقافي من استخدام السياسي للدين، أو تحويل الهويات الطبيعية إلى «هويات قاتلة» على يد السياسة؟ 
التركيز هنا على مفهوم الهوية، وجعلها خارج منطق السياسي بالمعنى الديماغوجي، فالهوية الدينية بدلا من تكريسها باتجاه «ادعاء الحقيقة» الوجودية للشعب، يجب أن تدور على لسان الناس في فلك «تدعاء المعنى» الوجودي للفرد، وبذلك يخرج الخطاب الديني من دوغمائية التداول الذي تفترضه دعوى «الحقيقة» إلى سعة التأويل الذي تفترضه دعوى «المعنى».
صحيح أن بعض الإسلاميين يحاول جاهدا تشويه الحداثة والليبرالية وغيرها من المفاهيم الحديثة، بأنها تتكئ على النسبية، والنسبية تضع كل شيء فوضى... إلخ من محاولات تخالف حقيقة الواقع العقلي الذي تطرحه المفاهيم الحديثة، فالنسبية تنطلق من الإنسان وليس من الحقيقة ذاتها، ولو أن الأمر كما يتصوره الإسلاميون عن مفهوم الحقيقة، لكانت بحوث الغرب توقفت على المستويين العلمي والنظري ما دامت في فلك النسبية، بمعنى التيه كما يفترض الإسلاميون، ولكن مفهوم الحقيقة يقتضي نسبية النظر، ولتقريب الفهم على من يريد أن يفهم من الإسلاميين نقول: عبارة «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» تعطينا تفسيرا لمعنى النسبية في الفهم الخاص للفرد تجاه الحقيقة، ويبقى النص مناطا لتحقيق «المعنى»، وليس لتقرير «الحقيقة»، ولهذا فحتى على المستوى العلمي نجد أن نظرية نيوتن حققت قفزة علمية جاءت بعدها نظرية آينشتاين لتقفز على دلالات نيوتن، وهكذا وصولا إلى نظرية الكم الحالية التي أعرض آينشتاين عن بعض تفاصيلها لأسباب ربما كانت خاضعة لمزاج ديني فيما يخص تصوراته اللاهوتية عن الكون، ولهذا فمن حقنا النظر إلى الحقيقة كأفق تسعى إليه البشرية، ومهما ارتحلنا إلى الأمام سيبقى هناك أفق نرجوه، وفي هذا حث فطري للنفس البشرية للسعي نحو الكمال وتذكير لها بالنقص الدائم، مما يكسر حدة الدوغمائية والقطعية في النفوس المخلصة في البحث عن المعنى في مجال الميتافيزيقا، والبحث عن الحقيقة في مجال الفيزيقا.