محمد علي فرحات

هل تأكد «داعش» من موت خليفته أبو بكر البغدادي ليقدم على تفجير الجامع والمنارة الحدباء، أم أنه حين ينتحر بدل الانهزام يسلّم الى العراقيين هداياه، جثث مقاتلين وحطام مدن؟ سؤال غير جوهري لا يحتاج بالتالي الى جواب، تماماً مثل أسئلة سياسية وأمنية كثيرة يملأ بها العراقيون المقيمون فراغ أيامهم المفتوحة على القتل والدمار، ربما تفادياً للمأزق الصعب: «داعش» باق في العراق متنقلاً من مدينة الى بادية ومن شاطئ للفرات إلى آخر، وهو لا يغيب عن دجلة وعن مناطق الوسط والجنوب حيث تحصد مفخخاته أرواحاً وعمارات، من باب التأكيد أن اللعنة مستمرة على رغم الإنجازات الأمنية للحكومة ومساعدات الجيش الأميركي.

سياسيو العراق مدعوون الى نقد ذاتي معلن، مع واقعية تبعدهم عن إدمان الندم وجلد الذات اللذين يستحضران الماضي ويهملان الحاضر والمستقبل. وأول النقد مطلوب من المعارضة التي تبتعد عن مسؤوليات مطلوبة من كل مواطن في بلد منكوب، وتنصرف إلى تصيّد أخطاء الحكومات وإضعافها حتى بالشحن العدائي العشائري والمناطقي والطائفي. صحيح ان أخطاء الحكومات كثيرة لكن غالبيتها لا ترجع إلى وجود الفساد وقلة الكفاءة وحدهما بقدر ما ترجع إلى فراغ خلّفه الاحتلال الأميركي العنيف، فضلاً عن الضعف التكويني للدولة العراقية بإداراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، منذ نشوئها في ظل الاحتلال البريطاني الذي ورث الإدارة العثمانية.

فساد الحكم العراقي لا يطاق، وهو يتعدى الإضرار بالاقتصاد الى التسبب بمزيد من الإنهاك السياسي والاجتماعي، لكن قدراً ولو ضئيلاً من الوعي بالمصلحة الوطنية كان يجب أن يمنع ردّ الفعل الكارثي، كما حدث في التسهيل الموضوعي لاستيلاء «داعش» على ثلثي العراق، فقط للتخلص من سلطة نوري المالكي الطائفية العنيدة.

وفي المقابل لا بد من نقد ذاتي يعلنه الحاكمون، خصوصاً قيادات حزب «الدعوة»، النسخة الشيعية من «الإخوان المسلمين»، فهؤلاء سمحوا، بل شجعوا أحياناً، طائفية شيعية سمحت لنفسها بالتقليل من شأن شركائها الأساسيين في الوطن، ولم توفر حتى الشيعة الوطنيين والعلمانيين والعروبيين، فاضطهدتهم أيضاً، وأدى ذلك الى إطلاق أفكار وطقوس من الزوايا المنسية للقرون الوسطى، وجرت تنميتها على قاعدة العداء للآخر المختلف، وبرزت في هذه الأجواء دعوات غريبة في خلايا المجتمع العراقي الشيعي لا تخلو من نزعات تكفير كتلك التي يأخذها الناس على «القاعدة» و «داعش». فكأن حكم حزب «الدعوة» يتشبه بحكم «الإخوان» في مصر برئاسة محمد مرسي في إطلاقهما نزعات معادية للسنة في حالة العراق وللمسيحيين ودعاة الدولة المدنية في حالة مصر. وكان ذلك يترافق مع تأكيد «الدعوة» و «الإخوان» التنصل من هذه النزعات.

ينهزم «داعش» في الموصل، لكنه يمتد في المحيط محاولاً فرض نموذجه العدواني على الأطراف المتنازعة، ولا ننسى أن العراق في المخيال المحلي والعربي والإسلامي يترافق ذكره مع وقائع تاريخية دموية وملتبسة. ولأن قادته اليوم، حاكمين ومعارضين، يرفع معظمهم شعار الإسلام السياسي، فإن عبوره إلى سلام الحاضر ونهضة المستقبل يبدو أمراً غير واقعي.

مع ذلك نرى بعض السياسيين العراقيين يمارس جمعاً غرائبياً بين طهران وواشنطن، فيما يتميّز قادة كردستان بتقديم نموذج تنموي ثم يضعونه على حافة هاوية الاستقلال التي تستدعي أعداء ولا ترضي أصدقاء.