راجح الخوري 

وسط مجموعة من مقاتلي «داعش» الذين غلبت عليهم مظاهر الارتباك، وفق ما نقلته وكالة «السومرية نيوز»، جرى إحراق المدعو أبو قتيبة نهاية الأسبوع الماضي؛ لأنه كان قد لمّح في خطبة الجمعة في تل عفر، إلى مقتل أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش، عندما أجهش فجأة بالبكاء بعد ذكر اسمه، ثم صمت لبعض الوقت وراح يردد آيات قرآنية، وهو ما اعتبر زلة لسان تشي بموت البغدادي.

رغم أن أبو قتيبة أحد المقربين من البغدادي وكان رفيقه في سجن «بوكا» الذي أداره الأميركيون في العراق، فإنه أعدم حرقاً بعد ساعات بتهمة إثارة الفتنة الداخلية، على خلفية وصفه بأنه «صاحب خطبة موت البغدادي»، كما نقلت الوكالة العراقية عن مصادر أكدت أن التنظيم وزّع بياناً في أرجاء مدينة تل عفر، التي نقل قيادته إليها من الموصل، حذّر فيه من إنزال خمسين جلدة عقوبة على كل من يتحدث عن موت البغدادي، وهذا رغم أن أبو البراء الموصلي معاون والي تل عفر، وهو أحد قادة التنظيم، كان قد اعترف بدوره في خطبة الجمعة بهزيمة «داعش»، معلناً أن تل عفر باتت مقراً مؤقتاً في انتظار العودة إلى الموصل!
لا يزال العالم يتذكر جيداً انهيار الجيش العراقي الذي بدا وكأنه من الأشباح، وتبيّن فيما بعد أن نوري المالكي بناه على الورق، قمة الإثارة كانت هزيمته الفاضحة أمام «داعش» الذي فرض سيطرته الخاطفة في 10 يونيو (حزيران) من عام 2014 في خلال ساعات على الموصل، ثم توسّع سريعاً ليسيطر على مساحة مائتي ألف كيلومتر من الأراضي العراقية، وبعد ذلك ألغى الحدود مع سوريا وسيطر على مساحة تسعين ألف كيلومتر في سوريا، تضم الرقة عاصمته، ودابق أرض معركة هرمجيدون!
الآن يتكرر شريط الإثارة، ولكن بحجم مضاعف وبطريقة مختلفة لا علاقة لها بانهيار التنظيم الذي كان متوقعاً أمام التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة ثانية أمام روسيا وحلفائها الذين يقاتلونه أيضاً (على ما يقول سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي)، لكن الأكثر إثارة هنا ما يتردد عن ضمور الحجم العسكري للتنظيم وعن مفاجآت ذوبانه وتبخره، وهو ما يشعل سيلاً من التساؤلات والشكوك!
قمة الإثارة ترتبط بمصير زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، في ظل مجموعة من الأخبار المتناقضة التي أشار بعضها إلى أنه قد قتل، وبعضها إلى أنه قد هرب، وبعضها الآخر إلى أنه انتقل متخفياً إلى جنوب الفلبين، حيث يريد أن يكرر هناك تجربة بن لادن في أفغانستان!
والأسئلة تتركز على أمرين: أين البغدادي؟ وأين «داعش»؟
في 23 يونيو الماضي نقلت وكالة «إنترفاكس» عن مصادر روسية أن مقتل البغدادي يكاد يكون مؤكداً مائة في المائة، وقال أوليغ سيرونالتوف نائب وزير الخارجية، إنه يوجد نصيب لا بأس به من التأكيد على أن البغدادي لقي مصرعه في قصف المقاتلات الروسية لمقر اجتماع «داعش» في الضاحية الجنوبية من الرقة، لكن كاريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية، قالت إنه ليس لديها معلومات جديدة حول مقتل البغدادي، في حين قال غينادي غاتيلوف، نائب وزير الخارجية الروسي، إن موسكو لا يمكنها تأكيد قتله، أما سيرغي لافروف فأعلن أنه لا يملك أدلة حسيّة تؤكد مقتل البغدادي!
على خلفيه السباق الروسي الأميركي على قطف رأس البغدادي، بدا التناقض في المواقف الروسية مناسباً تماماً للأميركيين، الذين سارعوا إلى التشكيك في الروايات الروسية، في حين قال المتحدث باسم التحالف الدولي، إن معلوماته لا تُثبت أن ادعاء موسكو صحيح، ولأن واشنطن تحب التذكير بأنها هي التي قتلت أسامة بن لادن فجر الاثنين 2 مايو (أيار) 2011 في أبوت آباد، فإنها لا تريد أن توازنها موسكو بقتل البغدادي، وخصوصاً بعدما رصدت 25 مليون دولار ثمناً لرأسه.
إيران دخلت على خط نهاية البغدادي، عندما نشر موقع شبكة «IRIB» في 30 يونيو صورة مزدوجة قال إنها للبغدادي حياً وميتاً تحت عنوان «وفاة البغدادي وبداية نهاية الحلم»، ثم تبيّن أن الصورة عينها كانت قد تداولتها مواقع إيرانية نقلاً عن حكومة إقليم كردستان، قالت إن البغدادي قتل مع ثلاثة من أقاربه في الأنبار، لكن الصورة كانت لجثة قتيل يشبه البغدادي، وإلا لكانت توفرت صور تلفزيونية تؤكد أنها جثته!
منذ فبراير (شباط) الماضي يطرح السؤال: أين البغدادي؟ وهذه العبارة ظهرت على الجدران في بعض أحياء غرب الموصل، ولم يتم مسحها كالعادة، وكان قائد القوات الخاصة في الجيش العراقي اللواء فاضل برواري قد رد على صحيفة «لوس أنجليس تايمز» التي قالت إن مكان البغدادي لغز محيّر، بقوله: «نحن نرصده وهو تحت الأرض في بلدة البعاج غرب الموصل، وقد حلق لحيته وتغيّرت ملامحه عبر عمليات جراحية كي لا يتم التعرّف عليه»!
آخر الروايات أنه تمكن من الاختباء والهرب مع عدد قليل من مساعديه، ووصل إلى جنوب الفلبين، حيث كانت «داعش» قد عيّنت الإرهابي المتشدد أسنيلون هابيلون، المعروف في التنظيم باسم أبو عبد الله الفلبيني، أميراً يمثلها في كل مناطق جنوب شرقي آسيا، بعدما كان قد واجه الجيش في معارك وعمليات عدة في ماراوي الواقعة في منداناو، وفي مدينة دافو التي احتل الإرهابيون شوارعها ورفعوا علم «داعش» على مبنى البلدية قبل أن يطردهم الجيش.
في المقابل يشتعل مع انهيار مواقع التنظيم في الموصل، وفي الرقة حيث اخترقت «قوات سوريا الديمقراطية» يوم الثلاثاء الماضي الأسوار التاريخية للمدينة، السؤال الموازي: أين «داعش»؟ الذي قيل إنه سيطر في وقت من الأوقات على مائتي ألف كيلومتر في العراق و90 ألف كيلومتر في سوريا، والذي طالما كرر الأميركيون وغيرهم أن عدد مقاتليه يزيد على خمسين ألفا؟
بعد كل هذه المعارك وآلاف عمليات القصف الجوي والاقتحامات، وفي غياب التغطية المباشرة للعمليات الميدانية في حرب يشارك فيها أكثر من مائة دولة في شكل أو آخر، كان من الطبيعي أن ترتفع الأسئلة الحائرة والمحيّرة: أين «داعش»؟ أين صور قتلاه في المعارك؟ أين صور أسراه؟ أين صواريخه ودباباته وراجماته الحديثة التي استولى عليها من ثكنات الجيش العراقي المهجورة ومن معسكرات الجيش السوري أحياناً؟
الأجوبة التي قالت إن التنظيم يدفن قتلاه وهو يتراجع مسخرة بلا معنى، والقول إنهم قتلوا في الغارات الجوية في البوادي مسخرة أخرى في غياب الصور والأفلام. أين «داعش» الذي قيل إن عدده 50 ألفاً، هل نزلوا تحت الأرض؟ هل حلقوا ذقونهم وذابوا في أرتال اللاجئين أو البيوت؟
السؤال الأخطر: هل تعود «داعش» في نسخة أكثر بربرية؟ ولماذا ومتى؟