سعود الريس

في السابع من شهر تموز (يوليو) الجاري، تصدر وسائل الإعلام العالمية خبر عن موافقة الدوحة على فتح جميع ملفاتها للاستخبارات الألمانية، وأعلن وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل، أن أجهزة الاستخبارات في بلاده ستشارك في الجهود الرامية إلى إزالة اتهامات الدول العربية المجاورة لقطر بأنها تدعم الجماعات الإرهابية، وأوضح أنه تم الاتفاق مع قطر على «كشف جميع أوراقها، بما فيها تلك التي تخص أشخاصاً أو هياكل»!

بطبيعة الحال الخبر كان لافتاً للمجتمع الدولي، لكن بالنسبة لنا لم يشكل تلك الأهمية، على رغم مفاجأته، لذلك تم وضعه في إطار المراوغة القطرية التي تتكشف مع كل خطوة تخطوها الدوحة. بيد أن الأمور لم تقف عند هذا الحد بالنسبة لآخرين، فالولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى كان لها رأي آخر حيال هذه الخطوة، وإن لم يكن ظاهرياً، ولو عدنا إلى الوراء قليلاً فسنجد أن الأزمة القطرية ومنذ يومها الأول كانت تتعلق بمكافحة الإرهاب والتورط القطري فيه بالأدلة، لكن ظهر واضحاً تباين الموقف الأميركي. 

ففيما أعلن الرئيس دونالد ترامب، من خلال أكثر من منصة، التورط القطري بتمويل الإرهاب، شاهدنا الخارجية الأميركية تتخذ موقفاً متحفظاً، بل وتطلق سيلاً من التصريحات المتناقضة! إذ دعا ريكس تيلرسون الدول الأربع - في تصريح له بعد اندلاع الأزمة - إلى تخفيف العقوبات الجوية والبرية والبحرية على قطر، وسط حديث عن المطالبة بأدلة منطقية للاتهامات ضد قطر بتمويل الإرهاب، وفي الوقت ذاته طالب قطر بوقف تمويل المنظمات المحظورة والإرهابية!

هنا تعدد تفسير الموقف الأميركي وتباينه الواضح، لكن ما إن تم الإعلان عن فتح الملفات القطرية للاستخبارات الألمانية وخلال أيام فقط، خرج تيلرسون أخيراً من مكتبه واتجه يهرول إلى المنطقة، وهنا كانت المفارقة. فالأزمة وما تحمله من مخاطر لم تدفعه إلى القيام عن مقعده وعلى مدى 35 يوماً، ثم تصريح كهذا يأتي به إلى وسط المعمعة بحجة الوساطة، ولم يكتفِ بذلك، بل تجاوز في تصريحات له نزاهة الوسيط، عندما وصف الموقف القطري بالموقف المنطقي والعقلاني منذ بداية الأزمة!

هذا بالنسبة لتيلرسون، فماذا عن البقية؟
بالنسبة إلى بريطانيا فإنها سعت إلى اتخاذ موقف محايد إلى حد كبير، وأوفدت وزير خارجيتها بوريس جونسون للمنطقة للقيام بجهود مصالحة، لكن ذلك سبق الإعلان عن فتح ملفات الإرهاب القطرية لألمانيا، إذ أعلنت أخيراً إيفاد مستشار الأمن القومي البريطاني مارك سيدويل بديلاً لجونسون. وفي خطوة قد تحتمل أيضاً بعض الدلالات، أعلنت باريس إيفاد وزير خارجيتها جان إيف لو دريان، لزيارة كل من قطر والسعودية والكويت والإمارات، في إطار الجهود لتخفيف التوترات في منطقة الخليج.

إذا تابعنا جميع تلك المعطيات بالتسلسل المذكور، فنحن إذاً أمام حال استثنائية تفسر لنا الكثير من المواقف، وتدفعنا للذهاب إلى نقطة أبعد من فتح الملفات القطرية للاستخبارات الألمانية. فهرولة تيلرسون إلى المنطقة في أعقاب الخطوة القطرية - الألمانية، وإمكان استبعاده بعد تعثره في أولى مهماته، واختيار مستشار الأمن القومي البريطاني، بدلاً من وزير الخارجية، وتحرك فرنسا التي رفض رئيسها في وقت سابق استقبال تميم وحدد له موعداً في نهاية الصيف، جميع تلك التحركات تدفعنا للاعتقاد أن هناك شيئاً ما يربط بين الملفات القطرية وتلك الدول، ربما تورط أطراف فاعلة فيها، لا نعلم، لكن كيف يمكن تفسير هذه التحركات، ومن قبلها الخطوة القطرية غير المسبوقة؟

أحد أكثر الأسئلة شيوعاً خلال الفترة الماضية كان يتعلق بالموقف القطري، وإصرار الدوحة على المكابرة، ونبرة التحدي الواضحة، فهل تراهن الدوحة على تلك الملفات لتشكل أداة ضغط على أطراف وأسماء فاعلة في الاستخبارات والخارجية الأميركية، ودول غربية؟ 

نقول ربما، فتحرك تيلرسون تحديداً ولغته لا يوحيان بغير ذلك، والجهد الاستخباراتي الأميركي والتمويلي القطري غير خافٍ، وتمت الإشارة إليه غير مرة، لدرجة أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب خرج غير مرة وهو يصرح بأن «داعش» صنيعة الرئيس السابق باراك أوباما والسيدة هيلاري كلينتون، التي عملت وزيرة خارجية أيضاً في عهده، لاحظوا أن هذا الحديث يخرج عن رئيس أقوى دولة في العالم، فإذا كان ذلك حقيقياً فالحقيقي أيضاً أن الدوحة كانت إحدى الأدوات التي كان يستغلها أوباما في المنطقة لتنفيذ سياسته، والتي اعتمدت على دعم الإسلام السياسي، وهو ما تورطت فيه الدوحة وتواجهه اليوم وحدها، بيد أن هذا - إن صدق - فيبقى إشكالاً أميركياً لا تستطيع واشنطن أن تحوله إلى قضية وتقايضه بأمن منطقة، فدول المقاطعة ليست مضطرة إلى التعايش مع أدوات مستهلكة تسعى للمساس بأمنها، بغض النظر عمن يدعمها أو يقف في صفها.

التعرف على الموقف القطري يستدعي التعرف على من يقف خلفه، وإن كنا حتى الآن غير متأكدين ولا نعلم ما الذي «يطبخ» للمنطقة من بيننا أو من الخارج، إلا أن المريح في الأمر هو المبادرة وتحويل المهمة القطرية الهادفة إلى تقويض أمن المنطقة وإشاعة الفوضى فيها إلى مهمة مستحيلة.