بهاء أبو كروم

تعددت نماذج التفاعل مع القمة الروسية - الأميركية في هامبورغ والانجاز الرئيسي الذي يتعلق بالهدنة في الجنوب السوري، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبّر عن سروره بإعلان تغيير في الموقف الأميركي الذي أصبح أكثر «واقعية»، ووازاه وزير الخارجية الأميركي بالتأكيد على أن بقاء الأسد هو «لأمد قريب» وأنه «لا مستقبل له في العملية السياسية».

التقييم الأدق لنتائج القمة صدر عن مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي هيربرت ماكماستر الذي قال إن «لقاء الرئيسين لم يفض إلى حل أي من المسائل العالقة في العلاقات بين البلدين».

توحي مقدمات التسوية المبرمة بين الأميركيين والروس حول جنوب سورية أن الأمر لا يعدو كونه تفاهماً مبدئياً يضمن إطالة المرحلة الانتقالية ويلقي على الروس مسؤولية ايجاد المخارج المناسبة لعائلة الأسد، إضافة إلى تكريس المعطى الأميركي المباشر في الجغرافيا السورية. بالنسبة الى الروس فقد عَلِقوا بالرغبة الأميركية التي تفوّضهم الحلول محل إيران في الترتيبات المتعلقة بجنوب سورية ومصير الأسد، وكل ما يريح إسرائيل، وبالنسبة الى الأميركيين فهذا اختبار لمدى قدرة الروس على إدارة المرحلة الانتقالية التي قد تكون بدأت فعلياً بعد لقاء ترامب وبوتين.

وذلك أيضاً يرفع وتيرة انخراط الولايات المتحدة بالتفاصيل السورية وتجاوز حدود «شرق الفرات» مع انتشار استراتيجي للقواعد الأميركية في المنطقة.

لقد أتت هدنة الجنوب بعد سلسلة تحركات أميركية افتتحتها ضربة مطار الشعيرات واستكملتها الغارات على قوافل النظام وحلفائه التي اتجهت نحو معبر التنف، وتوّجتها بإسقاط الطائرة الحربية السورية وإنذار النظام فيما إذا استعمل السلاح الكيماوي. 

بالموازاة كانت سلسلة الغارات اليومية الإسرائيلية في منطقة القنيطرة بمثابة مواكبة ميدانية للمفاوضات التي رعاها الأردن وأدت إلى التفاهم على هدنة تستثني إسرائيل من أي التزام، هذا الذي أكده وزير دفاعها أفيغدور ليبرمان فوراً بعد إعلان الهدنة بأنه «لا توجد أي قيود على حرية عمل الجيش الإسرائيلي في سورية». فعلياً عبّرت الهدنة عن توازن عسكري جديد نشأ في منطقة جنوب سورية واقتنعت بموجبه إيران بالمعطيات القائمة بعد فشل النظام باستعادة درعا. وبالنسبة الى إسرائيل فالأمر بمثابة واقع شبيه لذاك الذي فرضه القرار الدولي الرقم 1701 عقب حرب تموز (يوليو) 2006 على لبنان، بخاصة في حال تأمنت شروط المراقبة الدولية وتم استصدار قرار دولي مماثل.

الولايات المتحدة تؤجل بناء رؤيتها السياسية المتكاملة لصيغة الحكم في سورية إلى مرحلة لاحقة ربما لا تبدأ فوراً بعد لحظة القضاء على «داعش» إنما تمتد لحقبة تتبع ظهور نتائج السياسة الأميركية في إضعاف إيران وجلاء مصير الكيانات الكردية الآخذة في التشكل شمال سورية.

غياب التصور السياسي المناسب لدور سورية في المستقبل هو ما يبرر عدم استعجال إدارة ترامب للبت بمصير الأسد. هذه القناعة لا تقتصر على الأميركيين فقط إنما التحق بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخيراً، وهي حالياً تختصر منطق الدول الإقليمية وبعض الأطراف الرئيسية في المعارضة السورية، إذ إن مصير الأسد أصبح تفصيلاً متواضعاً أمام تمدد إيران وتقويض البنية المجتمعية والتقليدية لكل المنطقة. 

ذلك يجعل من مصير الأسد مسألة غير ملحة في معادلة التوازن الداخلي في سورية. فعلياً إيران هي العقبة الرئيسية أمام الحل، إذ ينبغي عليها أن تصبح أكثر إدراكاً لمعاني التحول في فاعلية القوة الروسية، التي انخرطت في الحرب السورية بطلب منها، وانتقالها من الضرب بالطائرات والصواريخ إلى نشر الشرطة العسكرية في المدن وعلى خطوط التماس!

لا تقتصر «العقلنة» عند الروس على هذا الأمر، فأمام الرئيس بوتين سنوات مقبلة من التعاطي بهدوء والتحكم العقلاني بردود فعله في القضايا الدولية، وأولى الترجمات تأتي عبر فرملة تمدده باتجاه أوروبا وتحاشي استفزاز واشنطن التي من الصعب أن تتقبل ظهورها في عهد الرئيس ترامب بمظهر الضعيف على الساحة الدولية. 

المبادرة الروسية في أوروبا تتوقف عند هذا الحد الذي يأخذ موسكو باتجاه السير في خيار رفع العقوبات كهدف استراتيجي من خلال التماهي في السياسات الدولية مع إدارة ترامب تماماً كما تماهت إيران مع إدارة أوباما أثناء المفاوضات المتعلقة بالملف النووي في الشرق الأوسط، وذلك طالما أن الستاتيكو في الدول المحاذية لروسيا غير قابل للتغيير بالمعنى الميداني، فليس هناك مساحات فارغة تستطيع روسيا اقتناصها، إذ تتبع كل المناطق المحيطة بها لحلف شمال الأطلسي الذي يرفع جاهزيته بمواجهة الخطر الروسي.

قمة هامبورغ التي غاب عنها منطق المقايضة بين ملفات سورية وأوكرانيا تفتح شهية ترامب على فصل المسارات وتجاهل حاجة روسيا لرفع العقوبات قبل انتهاء الجهود التي تقوم بها مجموعة النورماندي لتنفيذ اتفاقات مينسك في أوكرانيا ومعالجة احتلال روسيا لجزيرة القرم.

وفق تغريدته بعد اللقاء، «ضغط» ترامب على بوتين مرتين في موضوع التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية في مقابل إعلان بوتين تراجع الولايات المتحدة إلى حدود الواقعية. هكذا يكون الزعيمان تعادلا في إخراج نتائج لقائهما المشترك في هامبورغ... وعلى الأرض السورية!


* كاتب لبناني