حسن حنفي

 تغيرت مصر خلال العقود الماضية. فبعد أن كانت من الأوطان الجاذبة للعلماء والأجانب والجاليات الأجنبية والطوائف حتى أصبحت أحياء بأكملها مواطن لهم، أصبحت من الأوطان الطاردة لأبنائها، مثقفيها وعلمائها، عمالها وأهلها. فأصبح علماء مصر في الخارج من كبار المتخصصين في ميادين العلوم والآداب والعلوم الاجتماعية يملأون الجامعات الأوروبية والأميركية والأسترالية، ويساهمون في صنع الحضارة الغربية. وأصبحت عمالتها منتشرة في الخليج وفي السعودية وفي العراق وفي ليبيا وفي الأردن.

ونظراً لطول طوابير طالبي الهجرة أو السفر للخارج أمام أبواب السفارات الأجنبية منذ الصباح الباكر، وصعوبة تقديم كل الأوراق المطلوبة، تحول بعضها إلى هجرات غير شرعية عن طريق البحر من ليبيا. فك المواطن ارتباطه بوطنه حاضراً ومستقبلاً. وارتبط بالغير. فحدث له اغتراب داخلي. حاضر بجسده في وطنه، ويتوق بعقله وقلبه إلى الغير. الحاضر صعب في وطنه فأصبح قوة طرد. والمستقبل مضيء في أوطان الغير فأصبح قوة جذب. وقد ينتقل من اغتراب في الداخل إلى اغتراب في الخارج، من أغلبية فقيرة في الداخل إلى أقلية مضطهدة في الخارج. لايطيق صعوبة الوطن الطارد، ويطيق مصاعب المهجر الجاذب. هذا مع أن الواقع أكثر قبولاً من الوهم. وعصفور في اليد خير من عشرة في الغد.

وأسباب الهجرة كثيرة. أولها الفقر والبطالة وسوء الدخل بالنسبة لكثيرين. والمواطن من الطبقتين الدنيا والوسطى يريد حداً أدنى من العيش الكريم في العمل والدخل ومستوى المعيشة المقبول. وثانيها خلال بعض العقود السابقة التضييق على أصحاب الاتجاهات السياسية المعارضة، ماركسيين وليبراليين وقوميين ووطنيين بوجه عام. فقد استحال عليهم النضال في الداخل. وثالثها الضياع وفقدان الاتجاه وعدم الالتزام بشيء، وفقدان الغاية والاتجاه. والمواطن بطبعه صاحب قضية. يلتزم بحاضره، ومستعد لأن يضحي بحياته في سبيله. فالمواطن هو الذي يحرّك التاريخ طبقاً لقوانينه ليس فقط باعتباره زعامة «كاريزمية» ولكن أيضاً باعتباره عاملاً أو فلاحاً أو طالباً، برمزه، وقيادته ووطنيته. وطالما كانت الثورات العمالية ومسارات الفلاحين والحركات الطلابية هي التي تحدد مصير المراحل السياسية وحلقات التاريخ.

وتكون النتيجة تفريغ الوطن من مواطنيه، وتصفيته من قواه الإنتاجية والعلمية والفكرية، عمالة وخبرة وشهادة. فتسيطر أقلية على السلطة والثروة، وتعمل ما تشاء. وتحل محل القوى الوطنية المهاجرة قوى أجنبية تدين لها بالولاء في الظاهر، وخبرة أجنبية يكون ولاؤها للدول الأجنبية التي تأتي منها. وقد يفسد المجتمع ويتوقف عن الحركة لأنه خال من طاقاته الوطنية، ويهزل مهما كبر الرأس برجال الأعمال والخبرة الأجنبية والاستثمار الأجنبي والمعونة الأجنبية.

وهنا قد يشتد الهروب إلى الدين هرباً من الواقع الذي لا حراك فيه، والذي لا يتفق مع شرع أو عقل أو واقع. ويجد الشباب في الدين ووعده بعالم مثالي خير تعويض عن مآسيه في الحاضر، كما حدث عند بعض الطرق الصوفية. وقد يقع ضحية لتغرير الجماعات الأصولية المتطرفة التي تريد تغيير النظام بالاستيلاء على السلطة انقلاباً أو انتخاباً، عنفاً وإرهاباً. فإذا طال الوقت وعظم الخطر وانسد الطريق عاد الهروب من الواقع من جديد عن طريق المخدرات لنسيان النفس ونسيان العالم ما دام الشباب لم يستطع التأقلم معه والعيش فيه. فإذا لم يسترح في الطريقين، وانسد الطريق أكثر فأكثر فإنه قد يلجأ إلى العنف الاجتماعي بدلًا من العنف السياسي، يقتل أقاربه ولو كان الأخ أو الأخت أو الجار أو الصديق دفاعاً عن مسكن أو حرصاً على إرث أو مجرد خلاف في أولوية السير أو حادثة طريق.

فهل تنتهي الأساطير التي كررها علماء الاجتماع والإناسة بارتباط المصري بأرضه ووطنه، ورفضه الهجرة وترك قريته ومغادرته وادي النيل؟ فإذا كان الذي يشرب من مائه يعود إليه، فما بال الذي لم يشرب إلا من مائه، ولم يذق ماء غيره، فإنه لا يغادره؟

لقد حاول البعض العودة من العلماء وكبار المتخصصين وممثلي المنظمات الدولية وعهد إليهم بكثير من المهام، ولكن البنيات التحتية لم تكن متوافرة، وربما وضعت الصعوبات في طريقه عمداً فعاد إلى أوطانه البديلة. فقوة الطرد أكثر من قوة الجذب في مثل تلك الفترات من التاريخ.