سليم نصار

في كل مرة تحدد الدولة اللبنانية موعداً لإجراء عمليات مسح العقارات والأملاك العامة والخاصة، يكتشف مهندس التحديد العقاري أن بعض المواطنين يقوم بالاستيلاء على أملاك إضافية من قطع المشاع. كما يكتشف أيضاً أن الفوضى المستشرية في مختلف دوائر الدولة تسمح لمستغلي فقدان الرقابة الرسمية بتغيير حدود أملاكهم. ومثل هذه الحال تنطبق سياسياً على زعماء دول المنطقة الذين يتنافسون حالياً على تجميع أكبر المساحات حجماً بانتظار إجراءات المسح «العقاري» الذي يقوم به الروسي والاميركي والايراني في العراق وسورية. أي في الدولتين اللتين أخضعهما تنظيم «داعش» لحكم استمر مدة ثلاث سنوات.

الرئيس السوري بشار الأسد استند الى كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليؤكد أن وثيقة مؤتمر الأقليات لا تمثل الحد الأدنى من مطالب غالبية الشعب.

وكان الرئيس بوتين قد شدد في مؤتمره الصحافي الذي عقده في هامبورغ، إثر اجتماعه مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب، على ضرورة ضمان وحدة الأراضي السورية. وفسّر المراقبون كلام بوتين بأنه ردّ غير مباشر على وثيقة مؤتمر الأقليات السورية التي أسست لتقسيم البلاد الى كانتونات. وهي صادرة عن مؤتمر عُقِد في اسطنبول.

وانتقد أنصار النظام مضمون الوثيقة، لأنها في نظرهم تطالب بتقسيم سورية الى كانتونات أقلوية من دون مراعاة للتداخل الديموغرافي للشعب. واتهموا قوى سياسية خارجية بأنها تدعم هذا الطرح المريب الذي يعبّر عن دور الارتهان الى جهات غريبة. والملاحظ في هذا السياق أن بوتين عدّل موقفه من الأسد غداة لقائه مع ترامب. ففي منتدى بطرسبرغ قال إنه لا يدافع عن الأسد بقدر دفاعه عن الدولة. وحجته أنه يتحاشى نشوء وضع في سورية مماثل للوضع القائم في الصومال أو أفغانستان أو ليبيا. وأكد أن موسكو تريد استمرار الدولة السورية المهيأة لعقد تسوية سياسية مع خصومها على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254.

الجديد في لقاء بوتين وترامب هو اتفاقهما على إيجاد فترة انتقالية يصار خلالها الى إجراء انتخابات عامة ووضع دستور لا تستند نصوصه الى سياسة حزب البعث. وبما أن الرئيس الاميركي يجهل تفاصيل العملية السياسية في سورية، فقد أوكل الى وزير خارجيته ريكس تيلرسون مسؤولية تمثيله.

وقد أظهر تيلرسون في محادثاته أن بشار الأسد سوف يتخلى عن سلطاته في نهاية الأمر. وأكد أنه نجح مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في صوغ اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سورية بعد إطلاع الأردن على ذلك.

وفي مؤتمر آستانة، وقعت كل من روسيا وتركيا وايران اتفاقاً يقضي بإنشاء «مناطق تهدئة» في سورية. ولقد انتقدها في حينه وفد المعارضة احتجاجاً على دور ايران في ضمان التهدئة. وبما أن الدولة والمعارضة عجزتا طوال ست سنوات عن التوصل الى تسوية مقبولة من الطرفين، لذلك قبلتا بما يقترحه الآخرون. والاتفاق يقضي بإرسال قوات أجنبية الى سورية لحراسة حدود الفصل بين المناطق. ومع أن اتفاق آستانة لم يحدد هوية هذه القوات إلا أن الأمم المتحدة تتصور أنها قد تأتي من دول محايدة مثل ماليزيا واندونيسيا والمغرب.

يقول المراقبون المحايدون إن «مناطق التهدئة» ستكون نتيجة هدنة ملزمة للدولة والمعارضة معاً. وهم يتوقعون أن يفاقم هذا التقسيم انقسام سورية بطريقة يصعب معها استعادة التعايش السلمي السابق. ويرى هؤلاء أيضاً أن مشاركة النظام والمعارضة في مفاوضات آستانة وجنيف ليست أكثر من مناورة لتغطية واقع الأمور. من هنا قول أحد زعماء المعارضة «إن الدولة السورية موجودة في خرائط غوغل ودروس الجغرافيا وفوق كرسي العضوية في الجمعية العامة فقط»!

صحيح أن المعارضة سعت الى إنشاء كيان مستقل، وكذلك حاول الأكراد، ولكن المحاولتين باءتا بالفشل لأن المعارضة والأكراد تعرضوا لمقاومة عنيفة من قبل تركيا وايران وروسيا. ومع هذا كله فإن ترميم النظام أصبح من رابع المستحيلات!

عندما التقى في «فرساي» الرئيسان بوتين وماكرون طلب الرئيس الروسي من نظيره الفرنسي عدم الاعتراض على استمرار الأسد في الحكم الى حين إنتهاء المرحلة الانتقالية. وبالفعل، أعلن الرئيس الفرنسي الجديد موقفه المناقض لموقف سلفه هولاند حيال الوضع في سورية.

ويبدو أن بشار الأسد المتهم من قبل الولايات المتحدة وعدة دول اوروبية وعربية بحاجة الى دعم شرعيته بعدما شاركت قواته في قتل أكثر من أربعمئة ألف مواطن وتهجير أكثر من ستة ملايين نسمة وتدمير كل البنى التحتية في المدن الكبرى.

وكما فعل بوتين في هذا المجال، كذلك شجع «حزب الله» الحكومة اللبنانية على فتح حوار مع الأسد من أجل إعادة النازحين السوريين الى مناطق «التصعيد المخفض» في الجنوب الغربي. وكان ذلك عقب اقتحام الجيش اللبناني مخيمات النازحين في عرسال، الأمر الذي خلق أزمة سياسية ما زالت تداعياتها تتفاعل حتى اليوم. والسبب أن دعاة عودة النفوذ السوري الى لبنان شنوا حملة سياسية تطالب بالانفتاح على النظام المعزول. في حين مانعت جماعة «تيار المستقبل» بقيادة رئيس الحكومة سعد الحريري كل خطة تفتح المجال أمام تعويم نظام الأسد. وأعلن الحريري أن هذه المجازفة من شأنها أن تنعكس سلباً على الحكومة وتعطل عملها. وانتقد دعاتها بقسوة عندما قال: «القبول بالتواصل مع نظام مجرم يعني تغطية الأعمال التي يقوم بها الحلف الايراني - السوري».

ومن أجل احتواء هذا الخلاف ومنع وصوله الى الشارع، قرر الرئيس ميشال عون تكليف مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم القيام بمهمة التنسيق، بحيث لا تتحول مشكلة النازحين السوريين الى مشكلة لبنانية بامتياز.

ولفت الوزير درباس انتباه الحكومة الى وجود مليون وخمسين ألف نازح حسب الأرقام الرسمية. ولكنه على أرض الواقع يزيد عددهم على المليون ونصف المليون نسمة. وذكر أن ما نسبته 43 في المئة من مجموع هذا العدد يمكنهم الرجوع الى سورية بسبب انتمائهم الى مواقع موجودة في «المناطق الآمنة»... أو حسب الوصف التقني «مناطق منخفضة التصعيد». واستناداً الى الخبرة التي اكتسبها درباس في هذا المجال، اجتمع مع رئيس الحكومة سعد الحريري وبعض المهتمين بمعرفة تفاصيل هذه الأزمة، بحيث أطلعهم على مختلف وجهات النظر. المهم أن الجهود التي قام بها «حزب الله» خلال هذا الأسبوع بالتعاون مع «أبو طه» السوري قد أثمرت على الصعيد العملي. وكان من نتائجها عودة 33 عائلة تُعتبر الدفعة الثانية من سلسلة دفعات يشرف مندوبو الأمم المتحدة على عمليات رحيلها الطوعي.

ومن هذه المفاجأة تبرز أسئلة محيرة تتعلق بموقف «حزب الله» من النازحين السوريين: هل هو موقف طائفي يقود الى ترحيل مليون ونصف المليون سوري سنّي يمكن أن يؤدي بقاؤهم في الوطن الصغير الى إسقاط التوازنات القائمة؟

يُستدَل من لهجة الإنذارين اللذين أطلقهما الأمين العام السيد حسن نصرالله خلال الأسبوع الماضي أنه في صدد الإعداد لهجوم مسلح يبعد عن منطقة الجرد، الممتدة من نحلة وفليطا الى عرسال ورأس بعلبك، جميع المقاتلين المنتمين الى «داعش» و «جبهة النصرة» و «الجيش السوري الحر». ويقدر عددهم بألف وخمسمئة عنصر.

ويرى المراقبون أن انتصار «حزب الله» عليهم سيفتح أمامه الحدود مع سورية حيث تنتظره مهمات جديدة عقب استراحة الجيش السوري المنهك.

إضافة الى هذا الأمر، فإن «حزب الله» يسعى الى عدم الإخلال بالوضع الداخلي المريح، لكي يتفرغ الى ما هو أهم في نظره، أي الى مواجهة اسرائيل.

الرئيس بوتين تعهد بإقناع القوات الايرانية و «حزب الله» بالابتعاد من مناطق الاحتكاك مع اسرائيل. وفي اجتماع آستانة طالبت تركيا أيضاً بإبعاد مقاتلي «حزب الله» عن الحدود الشمالية لسورية. وهذا ما يفسر قيام الحزب بنقل معظم قواته الى مناطق جنوب شرق سورية بغرض مساعدة نظام الأسد في السيطرة على مثلث «التنف» على حدود سورية والأردن والعراق. وفي هذا المحيط توجد مواقع عسكرية اميركية أقيمت لمنع وصول الميليشيات الشيعية العراقية تحديداً الى حدود المثلث الخطر!

بقي أن نذكر أنه خلال فترة قريبة من المتوقع أن يقرر الكونغرس الاميركي فرض عقوبات إضافية أصعب من تلك التي فرضت على «حزب الله» في شتاء 2015. وتكمن خطورتها، بحسب مسودة اقتراح القانون الجديد، أنها تحذر المصارف الاميركية من التعامل والتعاون مع المصارف اللبنانية ما لم تلتزم عملياً بتطبيق العقوبات. علماً أن الزيارات المتواصلة التي قام بها لواشنطن مسؤولون من البنك المركزي اللبناني قد نجحت في إقناع غالبية شيوخ الكونغرس بتخفيف اقتراح القانون. ولكنها لم تقنع «اللوبي الاسرائيلي» في اميركا بتخفيف الضغوط على لبنان الذي تعتبره اسرائيل عدوها الأول في المنطقة!