فـــؤاد مطـــر 

على هامش الأزمات المتفاقمة على أنواعها، والتي تعيشها دول وحكومات عربية وإقليمية ودولية، تتقدم عليها الأزمة القطرية التي لم يحدث تاريخياً أن أبدت دول كبرى اللهفة بنبرة عالية من أجل أن يكون لها دور في المعالجة، تخترق معلومة لافتة ساحة الأزمات المتفاقمة والـ«كونسلتو» الأميركي – البريطاني - الألماني – الفرنسي، الذي يحتار المرء في نواياه، بمعنى: هل يريد حلاً للأزمة الخليجية أم إبقاء الحال على ما هي عليه؟


تفيد المعلومة بأن فرنسا التي لا تغفر لها دول كثيرة ويلات سنوات من الاستعمار أو الانتداب، تتجه نحو إضافة العربية إلى الذين يشغلون مناصب في السلك الخارجي وفي أجهزة المخابرات.
قبل الحديث عن هذه الخطوة المقتبسة بتأخير ستة عقود عن الإنجليز أحفاد «لورنس العرب»، نشير إلى أنه نتيجة قرن من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني للجزائر، أوجدت للجزائريين، على سبيل المثال، ظروفاً جعلتهم يفقدون بالتدرج كثيراً من مفردات لغتهم العربية، وتحل محلها خلطة من الأبجدية العربية – الفرنسية، استعصى على إخوانهم أبناء الدول العربية استيعابها، بمَن في ذلك الكبار من أهل القرار في الزمن الناصري الأكثر تعاطياً مع قضية الجزائر، من خلال سنوات تعبئة شعبية من جانب مصر عبد الناصر ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر والاستعمار عموماً لدول عربية وأفريقية.
وهذه الظاهرة كلفت العهد الاستقلالي للجزائر كثيراً، ذلك إن حملة التعريب التي بدأت كانت شاقة وهي مستمرة إلى الآن، يلاحظها مَن يجمعه لقاء بأخ جزائري ويتطرق الاثنان إلى مناقشة الأحوال العامة. والذي يحدث بالنسبة إلى العربي الذي لا يعرف الفرنسية، أنه كثيراً ما يجد نفسه لا يستوعب، بما فيه الكفاية، ما يقوله الأخ الجزائري الذي يستعمل بين الكلمة العربية والأخرى كلمة فرنسية... وهكذا.
ورغم الانحسار المتدرج بفعل جهود حملات التعريب، فإن ظاهرة الأبجدية العربية - الفرنسية ما زالت موجودة. وهي كأبجدية موضع ارتياح الفرنسي الذي يفهم بغير مشقة ما يريد الجزائري قوله، نتيجة امتزاج كلمات من اللغتين.
الدافع إلى إنشاء مركز في ستراسبورغ التي ارتبط اسمها بـ«الاتحاد الأوروبي» ليس ثقافياً، ذلك إن المنتسبين إلى هذا المركز آتون من أجهزة استخباراتية، أو من دوائر في وزارة الخارجية.
والأرجح أن هذه الأجهزة والدوائر، بعدما لاحظت من لقاءاتها بالأطراف العربية من عسكرية أو دبلوماسية أو مؤسسات اقتصادية ونفطية التي تتحادث معها، أن هذه الأطراف في معظمها تتحدث الإنجليزية إلى جانب اللغة العربية، وبذلك تتعثر أحياناً المناقشات وأحياناً كثيرة يضيع الوقت في الترجمة، رأت كعلاج للمسألة أن يتم إنشاء مركز لتعلُّم اللغة العربية، وتكون هنالك دورات مكثفة تفيد فيها التقنية المتطورة، وتستغرق الدورة سنتين يتخرج منها الفرنسي الدبلوماسي أو المخابراتي، وقد بات مثل أولئك الإنجليز في الستينات وحتى اشتداد الحرب اللبنانية عام 1987، ودخولها السنة الثانية عشرة، عندما استقر الرأي على كتابة الفصل الأخير من المعهد الذي أنشأه الإنجليز على مساحة من الأرض في بلدة شملان المطلة على بيروت، لكي يتعلم أفراد من بعثاتهم الأمنية والدبلوماسية اللغة العربية، مستلهِمين في ذلك النفع الذي حققه الجنرال غلوب باشا في الأردن، ولورنس العرب من قبل في طول الجزيرة العربية وعرضها. وخلال السنوات الشملانية بات لمؤسسة الحُكْم في بريطانيا نخبة من الذين يتحدثون العربية، ويتم تكليفهم بمهمات في الدول العربية ويَلْقون حُسن التعامل والوفادة من الطرف العربي الذي أشعره الإنجليزي بأنه من أهل البيت العربي.
«الظاهرة الشملانية» المستنسَخة حديثاً في فرنسا، المتأخر استنساخها ستة عقود، حاولت الانزراع في الأردن، لكن أجواء لبنان على ما يبدو هي الأكثر ملاءمة للنجاح، بدليل الجامعة الأميركية التي كادت الحرب اللبنانية تحملها على إقفال بوابة أمجادها، ثم نشأت الظروف التي تجعلها تواصل دورها التعليمي والتنويري في انتظار أن تثمر سنواتها قامات في السياسة والاقتصاد والطب والهندسة، ومعها الأدوار القيادية العقائدية الثورية والعروبية على نحو ما كانت عليه في خمسيناتها وحتى سبعيناتها.
كما أن «الظاهرة الشملانية» كادت تنزرع في الجامعة الأميركية بالقاهرة، لكنه انزراع خجول قياساً بالتجربة الأكثر تميزاً والتي كان ظاهرها إضافة اللغة العربية كمعرفة إلى الكثيرين الذين ينشطون في مؤسسات الدبلوماسية والمخابرات في بريطانيا، التي كانت ضمناً تتطلع إلى علاقة مع دول المنطقة تنأى عن مفاهيم الوصاية والاستعمار. ولقد تَحقق لها ذلك بنسبة ملحوظة بفضل «الظاهرة الشملانية» ومن دون أن يزعجها في شيء تصنيف المعهد الذي أنشأته هناك بأنه «وكر الجواسيس».
وما يلفت الانتباه هو أن هذا المعْلَم المندرج ضمن الخصوصية السياسية للبنان، بات مملوكاً من مؤسسة اجتماعية خيرية تابعة ـ«دار الأيتام الإسلامية» تستوعب ذوي الاحتياجات الخاصة من المتأخرين ذهنياً وذوي الصعوبات التعليمية. وبعد دورات من التأهيل يصبح هؤلاء على درجة من القدرات تماماً كما كانت عليه حالة «خريجي» معهد شملان، ومن بينهم سفيران متميزان لبريطانيا لدى لبنان، هما ريتشارد كينشن وجيمس وات، اللذان كانا عندما يزوران أو يزاران من شخصيات لبنانية لا يحتاجان، كما حال زوار لبنان من المسؤولين الإيرانيين الذين حتى إذا كانوا يلمون باللغة العربية أو يتقنونها فإنهم يصرون على التحدث بالفارسية، ويتولى ترجمان عملية من وإلى. وهذا سببه أن الفارسي غير محب لكل ما هو عربي، بما في ذلك «ضاده» مع أنه مسلم، وأن نبي الأمة عربي، وأن القرآن أُنزل بالعربية.
في باريس «معهد العالم العربي»، وفي «ستراسبورغ» مركز «شملاني الفكرة» لتعليم العربية، في انتظار أن يتم اعتماد العربية واحدة من اللغات المضافة في المنهاج التربوي الأوروبي عموماً. هذا في حال ارتأت وزارات التعليم في هذه الدول وغيرها أن اللغة هي أقصر طريق لتقريب المشاعر بين الشعوب. ويحدُث ذلك فيما العقلية العدوانية الصهيونية تتمسك باتجاه أن تكون العبرية هي اللغة الرسمية الوحيدة للدولة، وإلغاء اللغة العربية كلغة رسمية... مع أنهم (الإسرائيليين) نقطة في محيط عربي.