هادي اليامي

لا بد من فك الارتباط الواهي الذي حاول المالكي اصطناعه بين بغداد وطهران، وعودة العراق إلى محيطه العربي، دولة مؤثرة تصنع الأحداث، وتسهم في تكوين الوعي والثقافة العربية، والتصدي لأوهام ساسة إيران وعملائهم

أخيرا، وبعد معركة شرسة استمرت شهورا عديدة، شاركت فيها العشرات من دول العالم، ممثلة في التحالف الدولي ضد الإرهاب، ألقيت فيها آلاف الصواريخ والقنابل والمقذوفات، أعلن الجيش العراقي رسميا تطهير مدينة الموصل التي كان يتخذ منها متطرفو تنظيم داعش عاصمة لدولتهم المزعومة. فرّ الدواعش مذعورين كما الجرذان، لا يلوون على شيء، بعد أن ذاقوا كأس الرعب الذي أذاقوه من قبل للمدنيين الأبرياء، ورسموا الخوف في عيون الأطفال، وأراقوا دماء النساء وساقوهن أسرى وباعوهن في أسواق النخاسة، وأعادوا التاريخ إلى الوراء قرونا مضت، ودمروا شواهد الحضارة وآثارها بفؤوس صدئة. وللأسف فإن تلك الممارسات القبيحة تمت باسم الإسلام، وهو منها براء، ولوثوا صورة الدين الحنيف الذي ما أنزله الله إلا لإسعاد البشر وضمان رفاهيتهم، وتكريمهم.
فرح العالم أجمع، عندما كان رئيس الوزراء العراقي يعلن النبأ في تلك اللحظة التاريخية التي أكدت زوال أبشع كابوس عرفته البشرية في هذا العصر، ورغم ضخامة الفاتورة، والدمار الهائل الذي لحق بالموصل، تلك المدينة التاريخية التي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية وتطورها، وحولها المتطرفون وأعداء الإنسانية إلى أشباح وركام، إلا أن الفرحة كانت طاغية، فتتار القرن الحادي والعشرين سعوا جاهدين إلى طمس كل معالم الحضارة والثقافة التي تضمها المدينة العريقة، فدمروا المعالم الأثرية التي تعود إلى قرون مضت، وحرقوا أمهات الكتب النادرة، لم يترك الإرهابيون سبيلا للإساءة إلى الدين الحنيف إلا سلكوه، حيث عمدوا إلى جز أعناق ضحاياهم كما الخراف، وأحرقوا بعضهم، وأغرقوا الآخرين، ودهسوا الآمنين بسيارات الموت في شوارع الدول الأوروبية، مما أدى إلى وجود انطباع خاطئ في أذهان بعض من لا يعلمون حقيقة الإسلام بأنه يدعو للعنف ويرهب ضحاياه.
وحتى لا نغرق في لجة الفرح، ونتناسى الأسباب التي أدت إلى ظهور الإرهابيين وقوة شوكتهم، فإن هناك العديد من الخطوات التي يجب أن تتخذ، كي لا نفاجأ بظهور تنظيم إرهابي آخر، بنفس أهداف وأساليب الدواعش، وإن كان بمسمى جديد وشكل مختلف، فلا بد في البداية من الاتفاق على أن سياسة الكراهية التي مارسها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، واستعداءه كافة شرائح المجتمع العراقي وطوائفه، واتباعه سياسة مذهبية تقوم على التفرقة بين العراقيين، على أساس المذهب والطائفة، هي السبب الرئيسي في ظهور هذا التنظيم الإجرامي، حيث هيأت تلك السياسات الرعناء، والمظالم التي ارتكبت في ذلك العهد، الأجواء لظهور الإرهابيين، بزعم الانتقام للمواطنين السنة والأكراد والتركمان الذين ذاقوا الظلم على أيدي رموز حكومة المالكي، ومنحتهم تلك الممارسات ذريعة كافية لتجنيد المقاتلين والتغرير بالبسطاء وحديثي العهد بالإسلام.
وإن كان المالكي قد غادر كرسي الحكم -غير مأسوف عليه- فإنه ما زال حاضرا بقوة في المشهد السياسي العراقي، حيث يرأس ائتلاف دولة القانون الذي ينتمي له رئيس الوزراء الحالي، وما زال يسيطر على أغلبية في البرلمان العراقي، تدعمه إيران التي ما تدخلت في أمر إلا أفسدته. كما أنه يستقوى لفرض وجوده السياسي بميليشيات الحشد الشعبي الطائفية التي أشرف على تكوينها وتدريبها وتمويلها، لإرهاب معارضيه وتخويفهم. لذلك فإن المطلوب من العبادي في هذا الظرف التاريخي إزالة كافة أشكال الاحتقان، ورد المظالم، وتعويض الضحايا، وتفكيك التشكيلات الإرهابية، وتشجيع عودة اللاجئين، وتسهيل اندماجهم من جديد في مجتمعاتهم المحلية. إذا أراد العراق أن يواصل السير في طريق الاستقرار والنماء، وأن يعود كما كان في السابق، شامخا قويا، فعلى ساسته إدراك أن تقسيم المواطنين على أسس طائفية مقيتة لا يحقق هذا الهدف.
كذلك لا بد من فك الارتباط الواهي الذي حاول المالكي اصطناعه بين بغداد وطهران، وعودة العراق إلى محيطه العربي، دولة مؤثرة تصنع الأحداث، وتسهم في تكوين الوعي والثقافة العربية، والتصدي لأوهام ساسة إيران وعملائهم، ووقف تدخلاتهم في شؤون أرض الرافدين، وتبديد أطماعهم القديمة في ثرواتها وإمكاناتها.
ومن الضرورة التأكيد على أن محاربة الإرهاب، بكافة تصنيفاته وأشكاله، لا تقع على عاتق العراق أو سورية لوحدهما، وإن كانا أكثر المتأثرين به، فهناك إجراءات على المجتمع الدولي القيام بها، في مقدمتها إصدار تعريف يحدد مصطلح الإرهاب، ويضعه في إطار قانوني واضح، حتى لا يتم الخلط بينه وبين المقاومة المشروعة، وإصدار قائمة موحدة تحدد التنظيمات الإرهابية بأسمائها، وتمنع التعامل معها، وتضع عقوبات مشددة وصارمة بحق المتجاوزين، دولا كانوا أو مؤسسات أو أفرادا. كما أن من أولى هذه المهام وأكثرها أهمية نزع الأسباب المؤدية إلى ظهور الإرهاب وزيادة شوكته، وفي مقدمتها وضع حل للقضية المحورية للعرب والمسلمين، وهي قضية فلسطين، وإنهاء الأزمة في سورية وإرغام كافة داعمي الأسد، روسيا وإيران وحزب الله على وقف تدخلهم في شؤونها ومغادرة أراضيها، وإعادة الحكومة الشرعية في اليمن وهزيمة الحوثيين ومقاتلي المخلوع، علي عبدالله صالح، والتصدي لظاهرة الإسلاموفوبيا، ووقف كافة أشكال التمييز ضد المسلمين.
وإن كانت هزيمة الإرهاب تستلزم القضاء على أسباب ودوافع نشوئه، فإنها تتطلب أيضا بالضرورة تشديد الخناق على مصادر تمويله، ومطاردة داعميه، ومن يقدمون له العون، اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا ولوجستيا، واجتثاث هذا الوباء الذي اُبتليت به الإنسانية يفترض عدم التساهل مع من يغردون خارج السرب، ويزعمون محاربته بالنهار، ويقدمون له الدعم في ظلمات الليل. فجرائم الدواعش لم تستثن أحدا، وشملت القاصي والداني.
على مؤسسات المجتمع الدولي أن تكون أكثر قوة في القيام بتلك المهمة، وألا تتردد في تحديد داعمي الإرهاب، وألا تتم مراعاة أي اعتبارات سياسية، وأن تصدر عقوباتها الصارمة تجاه أي دولة يثبت تورطها في دعم قوى الشر والعنف، واتخاذ قرارات ملزمة بمقاطعتها وإلغاء عضويتها في المنظمات الدولية، فلا يستقيم أن تبذل غالبية دول العالم جهودها، وأن تضحي بأرواح جنودها لمحاربة الإرهابيين، وتقدم أموالها لتمويل العمليات العسكرية ضدهم، لتأتي بعض الدول الصغيرة التي تتطلع إلى لعب دور يفوق إمكاناتها وقدراتها، ويتجاوز تاريخها ومكانتها، فتهدر كل تلك الجهود وتضيعها هباء منثورا.