بكر عويضة 

 الاثنين الماضي، أعلنت جَستِن غريننغ، وزيرة التعليم البريطانية، تخصيص مليار وثلاثمائة مليون جنيه إسترليني، دعماً إضافياً لمدارس إنجلترا خلال العامين الحالي والمقبل. آنجيلا رينر، المعنية بالشأن التعليمي أيضاً في حكومة الظل العمالية، رحبت بالإجراء، لكنها قالت أمام مجلس العموم إن الدعم مطلوب، لكنه ليس كافياً.

ربما، لأن كل ما يُخصص من أموال للتعليم يظل غير كافٍٍ، ليس من منطلق أولويات بنود الميزانيات، وإنما انطلاقاً من قيمة العلم ذاتها، إذ من غير الممكن تقييمها بأي مال في ميزان أهميتها لأجيال الشعوب. يحق هذا القول في بريطانيا، مثلما ينطبق في أقاصي الكوكب وأطرافه. أليس الاهتمام المطلوب بمستوى التعليم في المدارس، كونه الأساس لكل علم لاحق، هو الاستثمار الأهم؟

بلى، ليس لعاقل أن يقلل من شأن الاهتمام بأمر التعليم. ما حصل هذا بغابر الأزمان، ولم يقع بحاضر الأوان، وسوف يبقى الارتقاء بالتعليم في مختلف مراحله، وتباين مستوياته، ديدن أمم كل العصور. ومعروف أن الاستثمار في التعليم يوجب تحديث الأدوات وتطوير الوسائل، إثراء المنابع وإغناء المراجع، ثم إعادة تذكير من نسي أو تناسى، غفل أو تجاهل، خصوصاً في زمان ثورة تكنولوجيا المعلومات، بأن أهم عناصر الاهتمام بشأن التعليم، سيبقى دائماً هو الإنسان، المُعلمة والمُعلم. أوكان عبثاً أن صدع أحمد شوقي قائلاً: قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا؟ كلا، بالطبع.
اهتمام حكومات الدول، لجهة الارتقاء بمستويات التعليم، يوازيه في الأهمية استعداد من جانب أفراد توفرت لديهم القدرات المالية. على صعيد دولي، برزت في هذا المضمار أسماء عدد من أغنى أغنياء العالم - لعل في مقدمهم بيل غيتس، وروبرت (تيد) تيرنر - حرصوا على تخصيص نسبٍ معتبرة من ثرواتهم لإعانة مؤسسات تعليم، وتوفير المنح الدراسية لطلاب من مختلف أنحاء العالم. بالتأكيد، على امتداد العالم العربي أيضاً، وعمقه الإسلامي كذلك، تنتشر جمعيات خيرية عدة، إما تختص بتوفير منح جامعية، أو تخصص بعضاً من نشاطها لغرض التعليم. بعض تلك الجمعيات يحمل أسماء شخصيات تحرص على الإسهام بنصيب من خاص ثروتها في تطوير مؤسسات التعليم بمجتمعاتها، وبعض آخر منها أسِس من منطلق العمل الجماعي. كذلك يوجد كثيرون ذوو سعة يخصصون أنصبة من ثرواتهم للإنفاق على طلاب علم ذوي احتياج ولم تتوفر لهم، ولهن، فرص الحصول على منح دراسية حكومية، أو دولية، أو خيرية. أولئك أناس أفاضل يؤدون ذلك الواجب السامي متمسكين بفضيلة الصمت. عبر المشوار المِهني، عرفت بعضاً من هذا الأنموذج الإنساني النبيل، ولم أعرف بدوره التعليمي ذاك، إلا بعد رحيله عن الدنيا، وحتى المعرفة ذاتها حصلت مصادفةً.
يخطر لي إذ أختم هذه الخاطرة أمران. أولهما جدال لفتني عبر إذاعة «إل بي سي» اللندنية الأسبوع الماضي لم يخلُ من صيحات استنكار. السبب أن شيئاً من الفزع أصاب المذيع، عندما استنجد بالمستمعين يطلب آراءهم في موضوع أزمة معلمين تهدد هذا البلد. لماذا «الأزمة»؟ لسببين، أولاً: المعلمون والمعلمات يهجرون المدارس بحثاً عن وظائف أكثر سخاءً في الأجر. ثانياً، وهذا أسوأ: أغلب أولاد وبنات جيل «تويتر» - «فيسبوك»، وما شابههما، غير معنيين باحترام المدرس والمدرِّسة، بل المَدرسة ككل. قد يبدو هذا خارج المعقول، لكنه مشكلٌ قائم.
أما ثاني الأمرين، فيذهب في اتجاهين، أولهما يلخص قصة شاب من مصر، تحمل بصيص أمل بأن المستقبل في عالم عربي لم تزل نسبة الأمية فيه مرتفعة (96 مليوناً حتى عام 2014)، هو للعلم. الشاب لم يتعدَ الرابعة والعشرين بعد، حصل ربيع هذا العام على الماجستير في الهندسة المعمارية من أهم مدارسها العالمية «The Architectural Association School of Architecture»، وهي المدرسة ذاتها التي تعلمت فيها وتخرجت منها المبدعة العراقية زها حديد، وهو يعلّم الآن في جامعة شتوتغارت، وفي الوقت ذاته يعمل استشارياً بشركة تصميم معماري ألمانية. الاتجاه الثاني كلمة وداع حزينة تخص مَنْ ودّع علماء الرياضيات في العالم بأسى قبل أيام، العالمة مريم ميرزاخاني، الإيرانية ذات الأربعين ربيعاً، أول امرأة تحصل على جائزة «فيلدز»، التي تُعد «نوبل» الرياضيات. شمعة علم انطفأت مبكراً، لكن شموع الأمل تُبعث، دائماً، من جديد. طوبى لكل من أوقد شمعة علم تضيء دياجير ظلمات الجهل.