أحمد عبدالمعطى حجازى

 وعدت بأن تكون هذه المقالة نزهة فى فردوس النهضة، لكننى مضطر لأن أتنقل هذا الأسبوع أيضا بين الفردوس الذى فقدناه والجحيم الذى ساقتنا إليه جماعات الإسلام السياسى بعد أن أخلى لها الساحة نظام يوليو العسكرى وهيأ لها أن تنفرد بنا. 

ولقد ثرنا على نظام يوليو فى الخامس والعشرين من يناير عام ألفين وأحد عشر، وثرنا على الإخوان ونظامهم فى يونيو عام ألفين وثلاثة عشر، لكننا لم نتخلص من آثارهما حتى الآن، لأننا لانزال خاضعين لثقافتهما التى تستخدم الدين وتجعله مطية للاستيلاء على الدولة، ومن هنا حاجتنا الملحة لخطاب دينى جديد نتحرر به من الطغيان بكل صوره وأشكاله ونعطى به الدين حقه والدنيا حقها، وهذا هو الموضوع الذى تناولته فى الأسابيع الماضية وكتبت فيه عدة مقالات بعناوين مختلفة ربما أوحت بأن كل مقالة منها موضوع مستقل منفصل عن غيره، والحقيقة أنها كانت كلها حلقات أو استطرادات فى موضوع واحد هو الخطاب الدينى الذى نطالب بتجديده منذ سنوات دون أن تلتفت لنا الجهات القادرة على تلبية هذا الطلب الذى اعتبره السيد رئيس الجمهورية مسألة حياة أو موت. 

ولقد يظن البعض أنى أتحدث هنا عن المؤسسات الدينية وحدها وعن موقفها السلبى من هذه المسألة.. والحقيقة أنى أتحدث عن كل المؤسسات التى ننتظر منها أن تشارك كلها فى تجديد الخطاب الدينى الذى لا يتجدد بفتوى دينية، وإنما يتجدد باحترام الأفكار والمبادئ والقواعد التى وصلت إليها البشرية المتحضرة فى هذه العصور الحديثة وإحلالها محل الذى تخلف وتحجر وفقد قيمته وأصبح قيدا وعبئا يمنعنا من التفكير والحركة. 

حين نطالب بتجديد الخطاب الدينى نطالب بأن يكون ولاؤنا لمصر وللدولة المصرية الوطنية المستقلة وليس لدولة دينية تستند لخطاب دينى يجعل الرابطة الدينية أساسا لقيامها وقيام النظام الحاكم وللقواعد والأساليب التى يتعامل بها هذا النظام مع المحكومين. 

ونحن نعرف أن الحاكم فى الدولة الدينية يعتبر نفسه نائبا عن الله لأنه يطبق شريعته، وأن المحكومين رعايا حكمهم حكم القطيع الذى يحميه صاحبه من الذئاب لكى يذبح منه ويأكل.

ولأن الحاكم ينوب عن الله فمن حقه أن يستولى على السلطة بأى طريقة.. من هنا كانت الديمقراطية فى الخطاب الدينى الموروث شركا لأن الأمة فى الديمقراطية هى مصدر كل السلطات. وإذا كانت الرابطة الدينية هى الأساس الذى يقوم عليه كل شىء فى الدولة الدينية فالدولة الدينية لا تعرف معنى للمواطنة أو للمساواة بين المواطنين، وإنما تميز وتفرق بين المنتمين لدينها والمنتمين لديانات أخرى، فما هو الموقف الذى اتخذناه حين وجدنا أنفسنا مخيرين قبل قرنين بين البقاء رعايا فى سلطنة الأتراك الدينية كما يقضى بذلك الخطاب الدينى المتخلف وبين التحرر من هذه الرابطة العبودية وبناء دولة وطنية ديمقراطية؟ 

الجواب أننا اخترنا الاستقلال والديمقراطية، وبذلك جددنا الخطاب الدينى استنادا لإيماننا بأن الدين فى جوهره يحرر العقل ويطلق الإرادة ويجعل المسئولية الأخلاقية مشروطة بحق الإنسان فى أن يفكر لنفسه ويختار. 

وحين استطاع محمد على أن ينتزع لنا استقلالنا من الأتراك العثمانيين ويبدأ فى تأسيس الدولة المصرية الوطنية الحديثة وتزويدها بما تحتاج إليه.. ماذا صنع حين وجد أن الخطاب الدينى الموروث لا يسعفه لأنه يحارب العقل ويكتفى بالنقل عن القدماء ويحرم التعامل مع الأوروبيين ويعتبرهم هم وحضارتهم الحديثة ومؤسساتهم وعلومهم وقوانينهم رجسا من عمل الشيطان؟ هل امتثل لهذا الخطاب الدينى الموروث أم خرج عليه؟ 

الجواب أنه لم يخرج على الخطاب الموروث وحده، وإنما خرج على النظم والمؤسسات والأفكار والقوى الموروثة كلها، خرج على الأتراك، وتخلص من المماليك فى المذبحة الشهيرة، واستعان بالمسيحيين المصريين والفرنسيين والإيطاليين والأرمن، وأرسل البعثات لتتعلم لغات الأوروبيين وعلومهم وفنونهم التى نستطيع أن نعتبرها أساسا لخطاب دينى جديد يحثنا الإسلام على طلبه فالحكمة ضالة المؤمن، والرسول يقول لنا (اطلبوا العلم ولو فى الصين). 

والذى حدث فى العلم والسياسة حدث فى التشريع والاقتصاد والمجتمع، فالنهضة التى تحققت فى السياسة والإدارة والزراعة والصناعة وغيرت العلاقات وساعدت على ظهور قوى جديدة وفتحت المجال للخبراء والتجار الأجانب فرضت على مصر أن تعيد النظر فى القوانين والنظم الموروثة من العصور الماضية على النحو الذى يشجع الإنتاج ويضمن الأمن ويحقق العدالة، وهذا ما قام به محمد على وخلفاؤه الذين تخلصوا من النظم العثمانية البالية وأنشأوا سلطة قضائية جديدة تعددت فيها الاختصاصات والدرجات لتعالج مختلف القضايا المدنية والجنائية فضلا عن الأحوال الشخصية التى ظلت الشريعة الإسلامية تنظمها، أما القضايا الأخرى فالاعتماد فيها كان على التشريع الفرنسى خاصة على قوانين نابليون التى قام رفاعة الطهطاوى ومعاونوه بترجمتها إلى اللغة العربية، هذا الإنجاز الذى قامت به السلطة القضائية وتحققت به العدالة يعد هو الآخر إسهاما إيجابيا فى تجديد الخطاب الدينى الذى يرفض المتخلفون تجديده لأن تجديده يحول بينهم وبين تطبيق العقوبات البدنية التى لا يعرفون من الشريعة الإسلامية غيرها. 

وإنجاز آخر يضاف إلى ما سبق ويؤكده وهو الأمر العالى الذى أصدره سعيد باشا عام 1856 وألغى به التمييز بين المسلمين والمسيحيين الذى كان معمولا به فى الدولة الدينية فيما يتصل بحمل السلاح، فالسلاح لا يحمله فى هذه الدولة إلا من ينتمون لدينها، أما الآخرون أو الذميون فيدفعون الجزية مقابل حمايتهم، وهذا ما تم إلغاؤه بالأمر الذى صدر وجاء فيه «أن أبناء أعيان القبط سوف يدعون إلى حمل السلاح أسوة بأبناء أعيان المسلمين»، وقد ألغى سعيد باشا الجزية التى كانت مفروضة على المسيحيين وعين بعضهم حكاما على بعض المناطق التابعة لمصر. 

ثم يأتى إسماعيل لينشئ مجلس النواب ويفتح باب التعليم أمام المرأة المصرية.هكذا كان الخطاب الدينى يتجدد، وهكذا كانت المواطنة تتحقق، وهكذا كان المصريون يتحررون فكرا وعملا ورجالا ونساء بالسياسات التى التزمتها الدولة والبرامج التى نفذتها دون أن تنتظر إذنا من أحد، حتى وقع انقلاب يوليو فأعادنا لعصور الظلام التى فقدنا فيها ما حققناه، ونسينا أننا حققناه، وعدنا لنطالب به من جديد. 

نحن نطالب بتجديد الخطاب الدينى أى بفكر يتبنى حضارة العصر ومبادئه ومسلماته ويحولها إلى قوانين نحترمها ونعمل بها.. بهذا يتجدد الخطاب الدينى، باجتهادات المفكرين والمثقفين وإنجازات الدولة ومؤسساتها، وليس فقط بفتوى يرجع فيها من نطالبه بها للخطاب الذى تربى عليه وهو الذى ندعو لتجديده فلا يستجيب أحد!.