زياد الدريس

ما زال الصراع بين التيارَين المهيمنَين في مجتمعاتنا العربية مستمراً، يخمد قليلاً ثم يشتعل كثيراً مع كل أزمة دينية أو سياسية أو اجتماعية جديدة. وقد كتبتُ عن استدامة هذا الصراع الثقافي/ المؤدلج، قبل سنوات، تحت عنوان: حرب المئة عام بين التيارين....!

هو صراعٌ لا ينطفئ، ولن ينطفئ، فقد وُجد منذ أن وُجدت في الإنسان نزعتا المحافظة والحريّة.

وهو نفسه الصراع الموجود في الدول المتحضرة من الشرق والغرب، لكن الفارق بين الحالتين هو في وجود الضوابط والقوانين التي تحكم (حدود) هذا الاختلاف، فلا يكون مُنهِكاً لطاقة المجتمع ولا مُعيقاً لبناء الوطن وتنميته.

في النصف الأول من القرن الماضي كانت التيارات القومية العربية هي المسيطرة على الخطاب النخبوي والمؤثرة في السماع الجماهيري. وقد عمل متطرفو تلك التيارات عملهم في التشنيع على كوادر التيارات المخالفة لهم من خلال استغلال نفوذها السياسي وجبروتها العسكري المتنامي حينذاك في تغييب شمس من حاول الظهور!

في النصف الثاني من القرن العشرين، انقلبت الأحوال وتغيرت الموازين، خصوصاً بعد هزيمة القومية في حرب ٦٧م. وأصبحت التيارات الدينية هي المهيمنة على المشهد الاجتماعي والثقافي. وبسببٍ من هذا التمكين فقد وظّف بعض كوادر التيار من «أشباه المتديّنين» الدّين في إدناء من أرادوا وإقصاء من سواهم، وذلك عبر استخدام الأدوات (الحادّة) للتصنيف والتكفير.

وفِي كل فترة هيمنة كان التيار المستضعَف يطالب التيار المهيمن بالالتزام بـ: قيم العدل والحريّة والتعددية وقبول الآخر. يقوم كل تيار مغلوب بإعلاء هذه المطالب عبر استخدام أدبياته النابعة من مرجعياته الثقافية، لكنه حين يتغلّب ينسى أو يتناسى هذه القيم التي كان ينادي بها!

الآن، ونحن في النصف الأول من القرن الجديد، تبدو بوادر انحسار نفوذ التيار الديني، وعودته إلى ما كانت عليه حالته في النصف الأول من القرن الماضي. لكن التيار الذي يزداد نفوذاً الآن ليس تياراً قومياً يهتم بقيم العروبة وقضاياها، ولا يسارياً يهتم بمناهضة الشوفينية، ولا ليبيرالياً حقيقياً يلتزم التعددية واحترام الآخر. هو، بل هي تيارات وطنية، لكنها تنطلق من خطاب يميني، يكاد يكون شوفيني في بعض منعرجاته. معظم كوادر هذا التيار الجديد هم من المحسوبين على الطيف الليبرالي إبّان نفوذ التيار الإسلامي، لكننا سنكتشف لاحقاً أنهم أبعد ما يكونون عن الليبرالية الحقّة!

وقد وضعتُ في موقع (تويتر)، الأسبوع الماضي، حزمة من التغريدات عمّن أسميتهم: أشباه الليبراليين.

‏وحرصت في تغريداتي تلك أن آتي بالنقائض التي كان هؤلاء (الليبراليون) يدعون إليها (الإسلاميين) في العقود الماضية. وحرصت على استخدام فعل (كانوا)، حتى أكشف أنهم يفعلون حين استقووا الآن ما (كانوا) يعيبونه يوم كانوا ضعفاء! ‏إذ كانوا ينتقدون استخدام (الدين) لبث الكراهية والإقصاء والتكفير، و‏الآن هم يستخدمون (الوطن) لبث الكراهية والاستعداء والتخوين.

‏وكانوا يشنّعون على المتشددين ممارستهم للوصاية وتضييقهم الاستقلالية في التفكير، و‏الآن هم يضيّقون على الناس في استقلاليتهم وحريتهم ومعيشتهم!

‏وكانوا يطالبون تيارات الجمود بإطلاق حرية الرأي والنقد، و‏الآن هم لا يسمحون بنقد أيّ رأي، ولا أن تختلف عن رأيهم بحذافيره.

‏وكانوا يعترضون على بعض الإسلاميين قيامهم بدور الشرطي، والآن هم يقومون بدور الشرطي، ويتمنون القيام بدور السجان أو الجلّاد!

و‏كانوا يعيبون على الإسلاميين استغلالهم نفوذهم في إيذاء الآخرين، و‏الآن هم يستغلّون نفوذهم وتمكّنهم في الإيذاء بطريقة أعنف. ‏كانوا ينقمون على الذين يتاجرون بالإسلام، و‏الآن هم يتاجرون بالوطن.

نحن بالفعل أمام تَخلق تيار‏ عربي من الوطنيين الجدد، يحملون سمات مختلفة تماماً عن سمات التيارات الليبرالية أو القومية العربية في النصف الأول من القرن العشرين.

أبرز سمات هؤلاء الوطنيين الجدد؛ أن أفضل وسيلة لهم للتعبير عن حب الوطن هي إعلان كراهية أوطان الآخرين، وهي تشبه سِمة بعض المتدينين الذين لا يجدون وسيلة للتعبير عن حبهم للإسلام أكثر من إعلانهم كراهية غير المسلمين!

كما أن من سماتهم البذاءة والازدراء في الرد على من يخالفهم، واستخدام العنف اللفظي الذي قد يتحول مع الأيام والسنين إلى عنف حسّي مماثل للعنف الذي آلت إليه الفصائل المتطرفة من التيارات الإسلامية في العقود الماضية، فيتشكّل لدينا (عنف وطني) على شاكلة (العنف الإسلامي)!ومن سمات (الوطنيين الجدد) أيضاً موقفهم من الصراع العربي الإسرائيلي، فهم لا فرق عندهم بين الفلسطينيين أو الإسرائيليين، ولا يهمهم كثيراً إن كان المسجد الأقصى مغلقاً أو مفتوحاً(!)، فهذا شأن فلسطيني بحت، لا مساس له لا بحسّ ديني عند المسلم ولا بنزعة قومية عند العربي. تيار (الوطنيين الجدد) صيغة جديدة وخلطة مبتكرة من التناحر الديني- الليبيرالي الذي كان يتداول الهيمنة في ما بينه. فهذه التوليفة الجديدة تضم (متديّنين) و(ليبيراليين) معاً، وتتصادم في المقابل مع تيار مناوئ هو أيضاً خليط من الفئتين. هل نحن أمام صيغة جديدة من الصراع بديلة عن الصراع الثنائي التقليدي؟

أم أن هذه الخلطات موقتة، وستعود الأمور خلال مدة وجيزة إلى مآلاتها القديمة؟!