نبيل عمرو 

نصف دزينة من رؤساء تعاقبوا على المكتب البيضاوي، راودهم حلم دخول التاريخ من بوابة حل معضلة الشرق الأوسط، التي هي القضية الفلسطينية، بعضهم نجح جزئياً وكلهم فشلوا أخيراً.
قدر الرئيس ترمب المتعطش لإنجاز مدوٍ، أنه جاء بعد نجاح بعضهم والفشل النهائي، وفي حملته الانتخابية وأثناء رئاسته وحتى الآن، لم يتوقف عن إشهار رغبته في تحقيق ما لم يحققه من سبقوه. ومن أجل مزيد من الإيضاح والتبشير، وصف ما سيفعل بصفقة القرن، ووجد في الشرق الأوسط والعالم من يشكك، ويا للمفارقة فإسرائيل أولهم وأفعلهم، ووجد بالمقابل من يشجع.
المشجعون لهم وزن ثقيل ومؤثر في المعادلات الشرق أوسطية، يتقدمهم معسكر الاعتدال العربي، الذي لم يتوقف عند التشجيع، بل أبدى استعداداً للانخراط في محاولة جدية أرضها السياسية هي المبادرة العربية للسلام.
أما الطرف الفلسطيني الذي ذاق مرارة الفشل المتواتر، فلم يشجع فقط بل تحمس وتبنى وراهن، وتكفي متابعة تصريحات الرئيس الفلسطيني أينما أتيح له التصريح، لنعرف منها أن الرجل ينتظر بشوق إعلان المبادرة التاريخية كي يقبلها وكي يتعاون معها، إذ لا خيارات أخرى.
قبل أن يدوي صوت الرصاص وتسيل الدماء في باحة المسجد الأقصى، كان المبعوث الأميركي غرين بلات في أفضل حالاته، وقد ظهر على واجهات الصحف الفلسطينية والإسرائيلية، باسماً متفائلاً وهو يشارك في احتفال تزويد جنين بكميات إضافية من الكهرباء التي تنتج في إسرائيل، إلى جانب أخبار عن ابتهاجه بنجاح صفقة البحر الأحمر والميت، التي بمقتضاها يحافظ البحر المالح على مائه بعد أن ظهرت أعراض جفافه المحقق خلال سنوات قليلة.
سيحظى الفلسطينيون بـ 35 مليون متر مكعب من الماء المعالج، 10 ملايين لغزة، و25 مليوناً للضفة، مع أخبار أخرى تشير إلى دوران عجلة الحل الاقتصادي التي تغطيها عبارة متكررة تقول: «إن كل ذلك ليس بديلاً عن الحل السياسي!».
كانت الأمور تبدو كما لو أنها مقدمة لتحرك عملي تفرضه الضرورة، أو كجرافة تزيل الحواجز من أمام العجلة السياسية التي لا تزال مجهولة الملامح، وإن عرفت فعلى نطاق ضيق للغاية، ذلك كله بحقائقه وأوهامه حدث وأثار جواً تفاؤلياً لم يسبق له مثيل، إلا أنه تبدد بعد أن سال دم 5 رجال في باحة الأقصى.
المفارقة الدرامية أن الخمسة جميعاً من العرب. القاتلون والمقتولون، يتحدون في حمل الهوية الإسرائيلية، ويمتلكون حق الترشح والتصويت في الكنيست، والتحرك دون سؤال على الحواجز، والتنقل دون عوائق من أي مكان إلى أي مكان آخر.
بعد انطلاق الرصاص وسيلان الدم، تولى السيد نتنياهو معالجة الأمر وفق معادلته التي يبني عليها عادة قراراته وإجراءاته: رجلا الشرطة اللذان قتلا يمثلان كل إسرائيل، والشبان الثلاثة الذين قتلوا يمثلون كل الفلسطينيين، ووفق هذه المعادلة يقع العقاب، كأن نتنياهو كان في انتظار هذه العملية، وبالخلاف مع توصيات المستوى العسكري والأمني الذي حذره من إغلاق المسجد، واتخاذ إجراءات استثنائية بحق المصلين، أصدر أوامره الفورية بتنفيذ إجراءات وصفت من قبل قطاع من الإسرائيليين بأنها شديدة القسوة، وستحدث آثاراً عكسية في غاية الخطورة. وإمعاناً في فرض معادلته الخاصة أوعز لوزرائه بانتقاد الأردن، والتلويح بسحب امتيازاته السيادية المحدودة على المقدسات عبر الأوقاف.
ورغم مجازفة عباس بالاتصال به لإدانة العملية، فإنه لم يتوقف عن توجيه الاتهامات الساذجة والمتكررة، ناسباً العملية للتحريض الفلسطيني، ولولا خشيته من اللوم الأميركي لما استقبل مكالمة عباس.
الذي حدث في الأقصى، رغم الإدانات الرسمية له من السلطة الأردنية والفلسطينية، والحذر الشعبي من رد الفعل الإسرائيلي عليه، فإنه سلّط ضوءاً كاشفاً على سلوك وخطاب إدارة نتنياهو، ومن المفترض منطقياً أن يضيء إشارة تحذير داخل البيت الأبيض، وأمام الرئيس ترمب تخصيصاً، فأين ستذهب جهوده ووعوده بوجود رجل كهذا في قلب مؤسسة القرار الإسرائيلي؟ ولعل الصدف شاءت أن تتزامن إجراءات الأقصى الاستفزازية والتنكيلية مع تصريحات نتنياهو في باريس، والتي نشرتها باستفاضة جميع الصحف الإسرائيلية، إذ أعلن في محادثاته مع الرئيس ماكرون تحفظه المسبق على مبادرة الرئيس ترمب التي لم تعلن بعد، أي أنه يتحفظ على الفكرة والاتجاه، وإلى جانب ذلك أبلغ الرئيس ماكرون رفضه للمبادرة الفرنسية التي عرضها الرئيس هولاند واصفاً إياها بالرديئة، مؤكداً رفضه لها.
فهل يقرأ البيت الأبيض جيداً ما فعل نتنياهو في المسجد الأقصى وما قال في باريس؟ أم أن التغاضي والمداورة ستكون هي سمة المرحلة القادمة؟
دعونا لا نتسرع ولنراقب.