سمير عطا الله

 تناقص الوقت وازدادت المشاكل والهموم. كنت في الماضي أعشق الموسيقى الكلاسيكية، وأصبحت غريباً عنها. وكنت أحضر بشغف المسرحيات الغنائية، وصار ذلك نادراً. يخالجك شعور بالذنب، وأنت تسلم نفسك لهذه النشوة التي تكاد ترفعك عن الأرض.

شيء واحد ما زلت أعود إليه، رغم مرارة الأمزجة وأسى الفضاءات، فيروز ومسرح الرحابنة. إنهم، مثل الأرض وفيء الصنوبر، آخر العلاقة مع لبنان. رافقوني في الأغنية الأولى، والحب الأول، والموال الأول، و«العتاب» الأول، ولن أتخلى عنهم الآن. لا أنا أنوي ولا أنا أقدر.
وبالنسبة إليّ، في الهوية اللبنانية الضيقة، الرحابنة ليسوا مجرد عباقرة شعر وموسيقى ومسرح، بل هم من طبقة الفن الذي يصنع الوطن. مثل شكسبير في إنجلترا، وغوته في ألمانيا، وطاغور في الهند.
لقد كبَّرت فيروز حجم لبنان، ونقلته إلى جبال الأطلس وجبال مسقط وجبل الكرمل. وفيما اهتزت صورته في الحرب، وتخلخلت جذور الأرز، وتقاتل الوحوش، ومات الأطفال الهاربون، ظل صوتها يردد «بحبك يا لبنان، يا وطني بحبك». وحينما تنازع سفراء لبنان على طوائفهم ومناطقهم وزعمائهم، ظلت فيروز سفيرتنا إلى الأرض «وإلى النجوم».
أنا عاطفي جداً في النظر إلى فيروز وعاصي ومنصور، ولا أريد أن أعيد النظر إلاّ من أجل أن أزداد قناعة وحباً. فهذا البلد الذي يمضي عامين ونصفاً من أجل أن ينتخب رئيساً، لم يعد تربطه لحمة واحدة، سوى إرث الوطن المغنّى، الوطن الذي رسمه الرحابنة وصدحت به فيروز، ولا يزال الجمال الوحيد الذي لم يبعثره اللبنانيون.
لم أعرف عاصي الرحباني جيداً. ربطتني صداقة حقيقية بمنصور. وأقصد بـ«الحقيقية» أن كلينا تمنى لو عرف الآخر في وقت أبكر. وكنت أنظر إليه ليس فقط كعملاق في القامة، بل كعملاق في الزمان. ولم يغب عني لحظة وأنا معه، في مكتبه المثير للشفقة، أو في «مطعم الحلبي»، حيث هو دائماً المضيف، أو في لندن، أو في باريس. لم يغب عني لحظة أن هذا العملاق العبقري، بدأ حياته يرعى الماعز، ثم أصبح شرطياً في بلدية بيروت، ثم أصبح كمان الشرق وشاعر «لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب». عاصي شرطي في بلدية انطلياس ومنصور شرطي في بلدية بيروت، وهذا الثنائي سوف يضيء الشرق ألحاناً.
إلى اللقاء..