عبيدلي العبيدلي

يتصدر تعبير الدول العظمى والدول الصغرى قائمة تعابير توصيف العلاقات الدولية القائمة. ودون الحاجة إلى الغرق في تحديد مقومات وصول دولة ما إلى مصاف الدول العظمى، أو بقاء أخرى بين صفوف الثانية، بمكننا القول إن من بين أهم عناصر التمييز بين الفئتين أن الأولى، متى ما اكتسبت صفة العظمى، لا تستطيع أن تنكفئ على ذاتها، وتجد نفسها مضطرة إلى تكريس نسبة لا يستهان بها من إمكاناتها في التزامات تتعلق بقضايا تتجاوز حدودها الجغرافية والسياسية، ويفرض عليها الحيز الذي تحتله في خارطة العلاقات الدولية الدخول في أحلاف عالمية، وفي أحيان كثيرة تكون هي الطرف الأساس في تشكيل مثل تلك الأحلاف.


على النقيض من ذلك تحرص الدول الصغرى، وأحيانا تجد نفسها مرغمة على الاهتمام بأوضاعها الداخلية وتكريس جهودها لترتيب بيوتها من الداخل، وفي حال اضطرارها إلى أن تكون طرفا في لعبة سياسية دولية تبذل قصارى جهودها لتقليص دورها على الصعيدين العملياتي والزمني في تلك اللعبة.
وعلى امتداد تطور العالم، تضاعف دور الدول العظمى في السياسات الخارجية، وتعاظمت نسب تدخلها في شؤون الدول الصغيرة، حتى باتت هذه الأخيرة، وفي مراحل متكررة «لعبة» إن جاز لنا القول في مشروعات تلك الدول العظمى. وفي أحيان كثيرة أيضا تجد الأولى نفسها أنها تحملت دفع ضريبة كبرى جراء إرغامها على أن تكون طرفًا، وإن كان هامشيًا في الصراعات التي تحتدم بين لدول الكبرى.
لو قرأنا التاريخ العربي، لوجدنا أن مراحل كثيرة من ذلك التاريخ وجد العرب أنفسهم إما في صراع مع قوى خارجية، أو في اقتتال داخلي بينهم جراء قبولهم أن يكونوا طرفا في صراعات بين دول عظمى مجاورة كانت تلك الدول أم تفصلها عنهم مسافات طويلة.
ويمكننا التدليل على ذلك بمثلين الأول منهما بعيد نسبيا والآخر قريب بالمعنى الزمني للكلمتين. فقفي القرن الرابع قبل الميلاد، سكن الغساسنة على مقربة من بلاد الشام، وكانت مدينة بصرى هي العاصمة السياسية لحكمهم، وعلى نحو مواز سكن المناذرة، وكليهما من القبائل العربية، قريبا من العراق، وكانت عاصمتهم الحيرة. وللعلم فكلتا القبيلتين تنحدران من أصول عربية يمنية، أرغمهما انهيار سد مأرب على الهجرة من اليمن.
في اختصار، وبفضل تنامي نفوذ الفرس في المنطقة العربية، في مطلع القرن السابع الميلادي، واحتدام تنافسهم مع عدوهم الرئيس حينها وهم الروم، وجد الغساسنة والمناذرة أنفسهم في صدامات مباشرة وقودا لحروب تنافسية بين فارس والروم.
المشهد ذاته يتكرر في مطلع القرن العشرين، حينما أرغمت الدولتان العظميان خلال الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وفرنسا، العرب على الانتفاض على الأتراك، تحت وعود زائفة، ومبررات واهية من أجل إضعاف الخلافة العثمانية، لكي تكون الغلبة لهما عليها.
ليس القصد الدخول في الدفاع عن الدول العثمانية او تبرير المواقف العربية، بقدر ما هو الإشارة إلى أنه بغض النظر عن نوايا الدول الصغرى، لكنها تكتشف، كما اكتشفنا نحن العرب، لكن في مراحل لاحقة التباين بين الأهداف التي زجوا بنفسهم في أتون الحروب من أجلها، وبين تلك التي كان يخفيها عنهم من دفعهم نحو ساحات تلك الحروب.
عندما نقارن بين المثالين السابقين، نجد أن الأول منهما يروي قصة دخول العرب في اقتتال داخلي، وتفرقهم في خندقين متصادمين، ليس جراء خلافات داخلية محلية بينهما، بقدر ما كان الأمر، وعينا ذلك أم غابت عنا الأهداف الحقيقية، دفاع كل فريق منهما: المناذرة والغساسنة، عن مشروع دولة كبرى مجاورة لهما. أما في المثال الثاني، فقد خاضت بعض الدول العربي حربا في صفوف الجيوش البريطاني – الفرنسية ضد الدول العثمانية، ليس بسبب خلافات واضحة المعالم مع هذه الأخيرة، وإنما، وهذا ما يحز في النفس، تنفيذا لمشروع الدول الأوروبية ضدها.
المشهد يتكرر اليوم، لكنه على نطاق أوسع، وضمن مشروعات أكبر. فمن يلقي نظرة على المشهد السياسي العربي يرى الصدامات العربية – العربية تنتشر في أكثر من دولة، وتمتد على رقعة جغرافية تمتد من الخليج، قبل أن تعانق شقيقاتها في المغرب العربي. والسؤال الاستراتيجي الذي تثيره تلك الصدامات العسكرية العربية – العربية هو ما الذي يدفع العرب إلى الاقتتال وبهذه الضراوة؟ ما هو الخلاف الذي يدفعهم، وبهذه الدرجة، إلى نسيان صراعهم الأزلي مع العدو الصهيوني، وتنافسهم التاريخي مع إيران، وتوجيه بنادقهم، بل طائراتهم العسكرية نحو صدور بعضهم البعض؟
لو دققنا في مسار تلك الصراعات التي اشتعل فتيلها الحديث في منتصف السبعينات من القرن الماضي في لبنان، ثم انتشر فيروسها في صدامات بين المسلمين والأقباط، في مصر، ومعارك تتوقف ثم لا تلبث أن تشتعل من جديد في الصحراء المغربية، وتشظ غير منطقي في السودان، كي نصل إلى مطلع القرن الواحد والعشرين، كي يجد العرب أنفسهم في صدامات عسكرية، تكاد ان تقترب من الحالة العبثية في شريط متواصل يمتد من اليمن حتى المغرب.
مقابل هذه الإقتتالات العربية المستمرة والمتنامية، تنتهز تل أبيب الفرصة فتسيج المسجد الأقصى وتقتل بدم بارد، متى ما تشاء، ومن تشاء من الفلسطينيين، وتكتفي طهران بإرسال خبرائها إلى ساحات تلك الحروب، في سوريا او العراق، لضمان عدم توقفها أولا، وتوجيه دفتها ثانيا، وضمان مغانمها ثالثا وليس أخيرا.
مكر الدول العظمى، وسذاجة الدول الصغرى يمكن الأولى من تأجيج الصراعات المحلية، وكسب مغانم نتائجها، ويرغم الثانية على دفع الأثمان الباهظة، والقبول بكونهم ضحاياها المباشرين أحيانا، وغير المباشرين أحيانا أخرى.
تلك المكاسب، وتلك الأثمان لا ينفيها انتصار محدود جغرافيا وزمنيا يمكن ان تحققه دولة صغرى هنا، او مكسب قزم تناله دولة صغرى هناك. ففي كلتا الحالتين تسقط محصلة الاقتتال المحلي ثمرة ناضجة في أحضان الدول الكبرى، بما فيها تلك الإقليمية التي تكون كبرى، ليس بالمعنى العالمي لذلك التعبير، وإنما على النطاق الإقليمي الذي يعبر عنه.