كمال الذيب

موت الليبرالية.. ومشكلة عقلنا الإقطاعي في جسم ليبرالي!

في الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين المنعقد مؤخرًا في مدينة هامبورج الألمانية، كان لافتًا أكثر من أي أمر آخر، تلك المظاهرات الحاشدة التي نظمتها جماعات المجتمع المدني -وخاصة الشباب وقوى اليسار- والتي تنادت من مخلف البلدان الأوروبية للاحتجاج على الرأسمالية المتوحشة، ولنعي الاشتراكية الديمقراطية التي تتراجع في هذه البلدان، لصالح قوة رأس المال، ولنعي الليبرالية أيضا في معناها الفكري ومبناها الإنساني، باعتبارها مع الحرية بكافة أبعادها، وذلك وسط تصاعد قوى اليمين المتطرفة بنزعاتها القومية والعنصرية والمعادية للأجانب. ويرى هؤلاء الشباب خاصة أن الحاجة قد أصبحت ماسة إلى ضبط العولمة ونتائجها السلبية، وعدم السماح لتحرير التجارة أن يقضي على شبكات الضمان الاجتماعي، ولا أن يقود إلى تدمير أنماط العيش أو الثقافات في مختلف بلدان العالم، كما هو حاصل في الواقع.


إن التعبئة الضخمة التي قام بها هؤلاء الشباب - بغض النظر عما شابها من أعمال عنف غير مقبول في بعض الأحيان- ليست ضد العولمة في حد ذاتها وبشكل مطلق وكامل، لأن هنالك إقرارًا بأنه من الممكن الاستفادة منها إيجابيًا، في مجال نشر المكتسبات العلمية والتقنية على نطاق عالمي وتحسين التنمية الاقتصادية في العالم أجمع. لكن هؤلاء الشباب ضد السياسات الرأسمالية المتوحشة والجشعة في بعض أبعادها، والتي تتبناها الدول الصناعية الكبرى، وضد النيوليبرالية التي تقول إن بتحرير التجارة العالمية وهدم الحدود وخصخصة جميع المؤسسات والمشاريع الاقتصادية وانسحاب الدولة من ميادين النشاط العمومي وتركها للقطاع الخاص، وتعتبر كل ذلك هو الطريق الوحيد للتكيف مع العولمة وإدارتها وتحقيق أكبر العوائد منها. في حين يرى هؤلاء الشباب أن السياسات النيوليبرالية المفروضة من الدول الكبرى والمؤسسات المالية العالمية على جميع الدول والشعوب الفقيرة والنامية، قد أفضت إلى الافقار والتدمير في العديد من المجتمعات، وإلى أزمات اقتصادية - اجتماعية كارثية، كتلك التي شهدتها في العديد من بلدان العالم الثالث، بل وحتى بعض بلدان أوروبا الغربية مثل اليونان التي تم تدمير اقتصادها وافقار شعبها وتكبيلها بالديون لعدة عقود قادمة.
أما بالنسبة لموت الليبرالية، فيمكن القول إن الحديث عن انتصار (الليبرالية) بعد انهيار الشيوعية واعتبارها (ايديولوجيا عالمية للنظام الدولي الجديد)، فإن الوقاع يقول -وهذا ما يدركه المحتجون- أن الليبرالية كأيديولوجيا، قد انهارت قبل انهيار الشيوعية، وإن ما بقي منها مسيطرًا على العالم ليس له من الايديولوجيا شيء يذكر، لأنه لا يعدو كونه منطقًا للقوة المادية ذات الطابع الاستعماري بشكليه القديم والجديد.
أما إذا انطلقنا من المبادئ والقيم التي تقوم عليها الليبرالية من حيث هي أيديولوجيا فإننا لا نكاد نعثر عليها في مواطنها المرجعية إلا في أشكال ممسوخة. فما اقتصاد السوق الذي يفرض على البلدان الفقيرة، أو التي تروم الاندماج فيما يسمى بالنظام الاقتصادي العالمي، الذي تمثله مؤسسات مثل البنك العالمي، وصندوق النقد الدولي، يبقى نسبيًا، فالدول الغربية التي ترفعه كشعار كثيرًا ما تمارس سياسات حمائية، إذا ما احست ان مصاحها وامتيازاتها مهددة. ويكفي هنا أن نستذكر دعوات الرئيس ترامب إلى الحمائية الجدية والتهديد حتى بالانسحاب من اتفاقية التجارة العالمة. وقد توصلت هذه البلدان الغنية، إلى الحفاظ على مصالحها على حساب مصالح العالم الثالث، بصفه عامة والوطن العربي بالخصوص، عبر تحالف هذه المجموعة من الدول الغنية، والتي تتحكم اليوم في النظام الاقتصادي العالمي، القائم على اختلال التوازن، والاجحاف واستنزاف ثراوت العالم الثالث بشكل سافر.
أما الديمقراطية، فإنها تكاد تنحصر في بعد ها السياسي، وقد رأينا خلال الأزمات المتتالية حدود هذه الديمقراطية وحدود حقوق الانسان في الغرب نفسه. ورأينا ونرى اليوم تصاعد منطق التهديد بالقوة كيف يحمل كثيرًا من الدول على التصويت لمن يمتلك القوة والنفوذ... كما رأينا وما زلنا نرى، كيف يتم التحكم في وسائل الاعلام وتوظيفها، في الغرب نفسه، بالتوجيه والتزييف والكذب... فأين نحن من القيم الليبرالية القديمة؟ وماذا بقى من الايديولوجيات التي تؤسسها؟ ان القيم الأساسية (الديمقراطية، العدالة، احترام حقوق الانسان) سوف تبقى قيما انسانية فوق كل المذاهب والايديولوجيات.. وتستحق أن يناضل الإنسان من أجلها، في كل مكان.. ولكن الدول الرأسمالية المتوحشة الحالية توقفت عن ان تكون مجتمعات ليبرالية بالمعنى الأصلي لهذه الكلمة. وتحولت إلى مجتمعات متعطشة للهيمنة والسيطرة الاستعمارية.
عقل إقطاعي على جسم رأسمالي!
وبمناسبة العولمة والرأسمالية والليبرالية، نرى في بلدان عربية عديدة، أخطر ترجمة لنتائج هذه العولمة من خلال فتح ورشة بيع القطاع العام أبوابها على مصر اعيها، استجابة-في الغالب-لنصائح البنك الدولي. وقد كثر الحديث بالمناسبة، عن عيوب القطاع العام، وكوارثه الاجتماعية والاقتصادية، فما تركوا كلمة سيئة إلا واستخدموها وهم يتحدثون عن هذا القطاع! وبموازاة ذلك، كثرت الأحاديث عن إعادة هيكلة هذا القطاع الاقتصادي واصلاحه، دائما بتنفيذ وصايا البنك الدولي العشرة بحذافيرها.. وبما أن كل شيء يجب أن يكون في خدمة القطاع الخواص، وجيل البورجوازية العربية الجديدة، من الأثرياء الجدد أو الساعين إلى الثراء بتكاسل وتواكل وتكالب على الربح السريع والسهل، فغنهم يروجون بأن وصفات البنك الدولي العلاجية، سوف تحقق الرخاء والتنمية للجميع!!
إن الاقتصاد العربي في حاجة ماسة إلى رجال أعمال رواد ومغامرين ذوي قدرة كبيرة على التجديد والتخيل والريادة والإبداع. هؤلاء بإمكانهم المبادرة بدل الاتكال على الدولة أو وراثة القطاع العام. وبامكانهم تبني حلقات الجودة على الطريقة اليابانية، وخلق علاقات ديمقراطية بين الصانع والمواد المصنوعة، وعدم النظر إلى الناس على انهم مجرد (تروس) دائرة أو بيادق تنفيذ تسمع وتتحرك دون فكر.
أما الحديث عن الاصلاح الاقتصادي، وجعله مجرد مرادف لبيع القطاع العام، فيحتوي على مخاطرة ومهالك كثيرة، فضلا عن كونه يحمل مغالطات كبرى رأينا نتائجها الكارثية في الواقع في العديد من البلدان، التي فرطت في القطاع العام طمعًا في التنمية والنمو الاقتصادي، فلا هي ربحت القطاع العام ولا القطاع الخاص. وانتهى الامر الى الإفلاس.
أما إذا كان لابد من ابتلاع (الوصايا) والوصفات والسير على هدى هذا النظام العالمي، فعلى الأقل يجب الاهتداء بما أفرزه نوابغ الرأسمالية من تايلور إلى فورد، إلى منظرى الصناعات اليابانية، لا مجرد تركيب عقل إقطاعي على جسد يريد أن يكون رأسماليًا فلا يستطيع. فاختيار الأسود والأبيض أفضل في الحقيقة من القبول باللون الرمادي.. والاهتداء بسيرة (فورد) أفضل بلا شك من السير على خطى السيد بوريس يلتسين مثلاً..