سمير عطا الله

 نشأ أبناء عاصي ومنصور الرحباني يتقبلون واقعاً قد وقع: رغم انتمائهم إلى إرث واحد، لن يجمعهم الفن ولا العلاقة. وبعد وفاة عاصي، صار منصور ينتج أعماله وحيداً، بينما مضت فيروز تغني من الماضي أو لزياد. وظل حضورها يزداد إشراقاً وتألقاً، فيما ازدادت حياتها الخاصة عزلة وانكفاء.

ولم تعد تظهر في المجتمعات، أو الأماكن العامة، إلا لإحياء الحفلات. وانقطع عصر سمي «الأخوين»، من دون أن يعرف أحد مَن منهما يؤلف ومَن يكتب الموسيقى. وظني أن منصور كان الأكثر شعراً بينهما. وحاولت غير مرة أن أعرف منه كيف كانا يتقاسمان العمل، فكان جوابه واحداً: «أنا وعاصي».

وذات مرة غامرت في أمر أعرف أنه صعب. وقلت لمنصور: «إنك لا تدرك كم أن تراث (الأخوين) لم يعد ملكاً للعائلة. وهذا الخلاف مع فيروز ضرر للبلد، وليس للعائلة وحدها. هل تمانع في أن أسعى إلى مصالحة بينكما؟» أجاب: «أي شيء تقرره فيروز أنا أأتمر به». وذهبت إلى فيروز معتقداً أنني مقبل على إنجاز.
كانت السيدة، الثمانينية اليوم، قد تجاوزت الستين آنذاك. وكان منزلها على الروشة مقفراً ومعتماً إلا من العاملة الآسيوية. تعد العاملة القهوة في المطبخ، وتصر «سفيرتنا إلى النجوم» على أن تقدمها بنفسها. سألت فيروز عن أحوال بعض الأصدقاء، وتساءلت عن «أوضاع البلد». وعندما وجدت الجو مناسباً، قلت: «يا أم زياد، حامل لك رسالة من منصور».
أصغت إلى الرسالة، ثم إلى الشرح، ثم إلى المناشدة. ثم علا صوت فيروز المحكي، الذي له صدى الغناء هو أيضاً، وعلا اللهجة اللبنانية شيء من خليط اليأس والحدّة، وقالت: «يا فلان، منصور بيحكي هالكلام لكل الناس، بس مش هيدي هيي الحقيقة». ثم قلبت الأسطوانة بأسلوبها: «بعدك عم تسافر كثير؟». 
عندما بلغت فيروز السبعين كتبتُ افتتاحية «النهار» عن سبعينها، قائلاً: إنني كتبت يوم كنتُ في الثلاثينات «صوتك وطني». ثم عندما بلغت الثمانين كتبت في المكان نفسه «سيدة العام»، ولا يزال صوتها وطني. لكنني لا أحاول كثيراً رؤية فيروز. تترك مرة رسالة مع زوجتي أنها اتصلت، ثم أتصل بدوري فلا يجيب، ثم الصمت. أكرر، ويكرر الصمت جوابه. يؤاتيني الحظ فقط عندما تكون لحفلة في دبي، أو باريس، فأذهب للتحية وأطلب منها طلباً: أن تضيف أغنية واحدة إلى برنامج الحفلة المعد مسبقاً. ومنذ وقفت فيروز أول مرة على مسرح الجامعة الأميركية، عُرف عنها أنها لا يمكن أن تنزل عند رغبة الناس بأداء، أو تكرار، أغنية مهما صفقوا وألحّوا. وأستطيع القول إنها كانت تضيف الأغنية التي أطلبها، إلا إذا كانت في الحقيقة موضوعة سلفاً على البرنامج. ذكاؤها بلا حدود.