طيب تيزيني

 استطاع النظام العولمي، برجاله ومؤسساته ووفرته المالية الهائلة أن يقدم نفسه في أوساط واسعة الانتشار في العالم بمثابته «اليوم الموعود» منذ مئات السنين على الأقل. ويقدم بصورة تاريخية مثيرة ولافتة، وتقوم على أنها «خاتمة الأحزان» بعد ألوف من السنين المفعمة بالعذابات، وخصوصاً بالحرمان والعنف. وعبْر تجارب البشر الطويلة والفظيعة، كان قد تشكل وعي ناقص في أوساط أولئك، مفاده أنه لم يبق إلا القليل، ويصلون إلى خاتمة الأحزان تلك بنشوء عالم جديد يعوّضهم عمّا لم يصلوا إليه بعد انتظار مديد، والأحلام بظهور عالم سعيد، ولم يأت هذا، وظل ذاك سيد الموقف!

وقد اتضح الموقف بمزيد من الممارسة النظرية والكفاح السياسي أمام الفقراء المفقّرين، وراح الأمر يظهر بأن النشاط السياسي خصوصاً ضد الظاهرة الجديدة، إنما هو الخيار الوحيد الذي سيكون صعباً ومُكلفاً، وراح المحتجّون الساخطون يكتشفون أن العيش في قلب العلاقات العولمية إنما هو استمرار للعذابات التي سبق وعانوا منها الأمرّين في ظل النظام الرأسمالي الإمبريالي الليبرالي. أما الضخّ الإعلامي الذي هدف إلى اختراق ضمائر وعواطف وعقول المفقّرين، فقد هدف إلى إقناعهم بأن النظام الجديد يقوم على احترامهم ودعمهم ومساعدتهم بفكرة «الدعم الإنساني المتبادل»، ولكن الذي حدث تمثل في أن هذا الدعم إنما هو وهْم.

إذن، كان على أولئك المفقّرين أن يكتشفوا تلك الحقيقة، واصلين إلى أن النظام العولمي إن هو إلا نظام يبتلع الطبيعة والبشر، ليحولهما إلى سِلع تغطي العالم، أما المصدر الفعلي لهذه الآلية فيتضح في الآلية الأخرى التالية، التي استطاع روّاد التفكيك النظري لهذا النظام الجديد أن يُفصحوا عنه، بعد عملية تفكيك أفضت إلى نتيجة ليست مفاجئة لضحايا هذه العملية، وخصوصاً منهم من وضع يده على الحقيقة الخطيرة التالية: «كلّما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان»، بعد حدوث تحول كبير عميق في النظام الجديد العولمي، فبهذا جرى اختراق بنيته بكيفية أدت إلى صيرورته «سوقاً مطلقاً»، على حد تعريف أعلنه أحد الباحثين الأميركيين، حين عمل على تعريفه، استناداً إلى النتيجة التي وصل إليها في ضوء البحث الذي أشرنا إليه.

هكذا، توصلنا إلى أن النظام العولمي ربما هو السوق الأخير في سلّم النظم القائمة على الاستغلال والعنف والإرهاب المنسّق، وبالمناسبة نحن نعيش أياماً قاسية وهذه بدورها تتحدث عن صراع الفلسطينيين مع مجموعات استيطانية على رأسها المسؤولون الإسرائيليون، الذين يرفضون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الدينية تعبيراً وممارسة. إن صراع الفريقين إنما هو حلقة جديدة قديمة، يدور حول حقوق الفلسطينيين، فالنظام الدولي مشروخ، وما زال مشروخاً.

وقد ظن فريق أعلن أن هذا الأخير قد يحمل في ثناياه خيراً أو بعض الخير تجاه البؤساء الفقراء والمظلومين، بحيث يمكن أن يحصلوا على بعض حقوقهم نتيجة لتفكير سادة العولمة المالكين، بشيء من العطف وكذلك العقلانية والإنسانية، وربما كذلك بشيء من التبصّر المستقبلي، القائم على أن الحياة كما يقال في بعض الكتب، لها أيامها الخبيثة، التي تظهر فجأة وقد رأى البعض المتفائل نسبياً أن المحتجّين الذين تقوم حركتهم على الفرضية القائلة بأن العلاقات العولمية معادية ومناوئة في الأساس، فبدلاً من أن تساعد على الدعم المتبادل، يريد المحتجون أن ينقذوا المستضعفين في العالم مما يرون أنه عواقب العولمة.

لقد ظهر أن المعْلم الأهم في النظام العولمي يتمثل في إعادة بناء النظام الاقتصادي المهيمن، بتهميش أدوار البشر في الحياة العامة والخاصة، وذلك على نحوٍ يؤسس لوطن أفضل ما نعرفه به هو أنه سوق أو بتعبير أدق: السوق الذي يصبح سيد الموقف في الحياة العامة والخاصة لمئات الملايين من الفقراء والمفقّرين، أي كل المُنتمين إلى «البروليتاريا الرثّة» وآخرين كثيرين.