أحمد التيهاني

باتت بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية الباحثة عن «الشعبوية»، تلجأ إلى الخرافة وادّعاء الكرامات لزيادة أعداد التابعين السذج، وإسباغ شكل من أشكال القداسة على قيادييها

 يذكر المؤرخون أن الإمبراطور قسطنطين الأكبر، اعتنق المسيحية سنة 312م، على الرغم من أنه كان من أشد كارهيها ومحاربيها والواقفين ضدها، وسبب اعتناقه إياها أنه رأى صليبا معلقا في السماء، وهو يتراقص ويضيء أمام عينيه، وظن أن ذلك المشهد معجزة خارقة تحتم عليه الإيمان بالدين المسيحي والإخلاص له.
لم يستطع العقل البدائي المتكور في رأس الإمبراطور قسطنطين الأكبر أن يُوجد تفسيرا علميا لما رآه، فأحاله مباشرة إلى الخارق والمعجز، فيما يثبت العلم أن ما رآه قسطنطين ومرافقوه ظاهرة طبيعية عادية تنجم عن انعكاس ضوء الشمس على الثلوج المتساقطة في ظروف جوية معيّنة، إذ يؤدي هذا الانعكاس إلى ظهور خيطين ضوئيين متعامدين على هيئة صليب.
الحكاية التاريخية السابقة واحدة من آلاف الحكايات التي يتجلى فيها لجوء العقل البشري إلى الخرافات والخزعبلات عند العجز عن التفسير، وهي طبيعة بشرية عادية للهروب من عجز العقل عن المعرفة والتعليل عبر أيسر الطرق، إلا أن هناك مرحلة أكثر تقدما وتعقّدا من حالة قسطنطين الأكبر وحاشيته، وهي أن يبحث الإنسانُ عن الخرافة بحثا، ثم يبني عليها معتقدات وآراء، ويحاول تعميمها مضيفا إليها «بهارات» إبهارية، من نوع أن يبحث عن لفظ الجلالة في بيضة، أو في تشكّل طبيعي لمجموعة متداخلة من جذوع الأشجار، وكأن الإيمان بخالق هذا الكون العظيم -سبحانه- يحتاج إلى سند خرافي، أو مصادفة طبيعية!
تبقى مسألة التعلق بالخرافة ممارسة بشرية عادية منذ أقدم العصور حتى اليوم، فلم يستطع الإنسان التخلص منها، إلى الحد الذي جعل بعض الناس يربطون خرافات معينة بالعلم ربطا اعتسافيا، ومن ذلك خرافة الأطباق الطائرة التي يحاول الخزعبلاتيون تفسيرها تفسيرا علميا، ومثلها ظاهرة التعلق بالأبراج الفلكية والإيمان بتأثيرها على حياة الإنسان، إلى حد أن بعض المؤمنين بها ملحدون في الأصل، لكنهم يفسرون أثر الأبراج تفسيرا علميا أعوج، لا يمكن أن يقتنع به إلا من وجد في التعلق بالوهم مخرجا من واقعه، ولستُ أدرى كيف اهتدت عقول هؤلاء إلى الإيمان بأثر الأبراج في حياة الأفراد، ولم تهتد إلى وجود فاطر السماوات والأرض وما بينهما؟
أقول: تبقى مسألة التعلق بالخرافة ممارسة بشرية عادية عائدة إلى قصور العقل، إلا أنها تتحول إلى فعل مُضرّ جدا، وغير أخلاقي، حين تُربط -قسرا- بصحة الإنسان ومرضه، أو بنجاحه وإخفاقه، أو بما يحدث له في مستقبله، مما يفتح أبوابا واسعة على «مولات» تجارة الوهم، ويزيد في مكاسب الوهميين من المعالجين الروحيين الذين يحاولون تكريس الإيمان بالخرافة في أذهان الناس، لزيادة أعداد زبائنهم، وبالتالي زيادة مكاسبهم، مستغلين في ذلك وسائل الاتصال الحديثة، كالقنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، فلا يكاد يمر يوم دون أن أجد ضمن المتابعين الجدد في تويتر معالجا روحيا أو معالِجة!
أزعم أننا أصبحنا أمام مشكلة ثقافية معقدة ومتمددة، فبعد أن كانت الخرافة تدور في نطاقات ضيقة، صارت تنتشر باستخدام أضدادها من الوسائط التي اهتدى إليها الإنسان بالعلم لا بالخرافة، حتى إن الخرافة دخلت في السياسة، إذ باتت بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية الباحثة عن «الشعبوية» تلجأ إلى الخرافة وادّعاء الكرامات، لزيادة أعداد التابعين السذج، وإسباغ شكل من أشكال القداسة على قيادييها.
إن التعلق بالخرافة والوهم مشكلة ثقافية لارتباطها بنقص الوعي، والبعد عن العلم بمعناه التطبيقي، لا معناه المعرفي المجرد، مما يدل على عجز عن التحليل، وتكاسل ذهني عن ربط ما يحدث للإنسان بأسبابه الموضوعية، أو -بتعبير آخر- البعد عن «التبصر» و«البصر» بصفتهما إعمالا للعقل، لا تعطيلا له، كما هو الحال في ربط الأحداث والتطورات التي تطرأ على الشخصيات، بكل ما هو خارج عنها، وبكل ما هو بعيد -البعد كله- عن المعطيات الحقيقية المؤدية إلى الفشل أو المرض أو العارض الدنيوي.
أزعم أن اتكالية العقل، وإصرار تيارات ما على التفكير بالنيابة عن الناس، قد أفرزا شكلا خطيرا من أشكال الكسل العقلي الذي يجعل الانتهازيين من معطلي العقل يذهبون إلى الحد الأبعد في «استلطاخ» الناس، من خلال العمل على ربطهم بالأوهام والخرافات الميتافيزيقية، كي يكون هؤلاء الانتهازيون بدلاء للأطباء والعلماء، ويصبحوا محور دوران الحياة، ومرتكز حياة المجتمعات، عبر تكبيل العقول، أو إلغائها، حتى يكون كل حادث في حياتنا مرتبطا بالسحر والعين والأحلام والنجوم والرقاة ومفسري الأحلام وقارئي الطوالع، وكأنه لا قدرة لنا، ولا عقول، ولا واقع، ولا إرادات، ولا حلول، ولا محاولات، سوى اللجوء إلى ساحر مضاد للسحر، أو مشعوذ مضاد للعين، أو مفسر يرسم لنا خريطة ما هو آت في أيامنا المقبلة، بناء على ما رويناه أو رأيناه أو توهمناه.
كلما أوغلت المجتمعات في تعطيل العقل، زاد تعلقها بالوهم، وسهل تشكيلها واستتباعها، وكلما تخلفت عن مسايرة الركب الحضاري الإنساني الذاهب إلى الأمام، والأمام فقط، نسبَت كل أحداث حياتها وعوارضها إلى ما تعجز عن تفسيره، ليكون العجز عن التفسير تفسيرا يشبه تفسير الماء بالماء، وتبدأ بهذا العجز مرحلة الحياة داخل أسوار الوهم والتبعية، وتلك أدنى درجات استثمار العقل الذي وهبه الله للإنسان لإعماله، لا لتعطيله وتكبيله، أو تأجيره إلى الذين يشكلونه تبعا لمصالحهم وأهوائهم وخططهم.