محمد الرميحي

منذ عام 1945 عرف العالم أن الحروب البينية بين الدول القومية لم يعد لها مكان، ليس بسبب حكمة القادة أو نقص في شهية التوسع، ولكن بسبب واحد هو (وجود قدرة الدمار الشامل والمتبادل) لدى عدد من الدول، خصوصاً الدول الكبرى.

منذ ذلك التاريخ لم يعد رسم حدود دولة أو وطن بالاعتداء وبالقوة الغاشمة؛ كان التغيير يأتي، إن حصل، بتوافق بين الفرقاء، وعلى الرغم من الحروب المستعرة اليوم في أكثر من مكان، فقتلى الحروب في سوريا وأوكرانيا وبقايا المناطق الساخنة في العالم، أي ضحايا العنف الإنساني، أقل من مجموع ضحايا الموت في العالم بسبب السمنة، أو حوادث السيارات أو حتى الانتحار!


التبصر في تلك الحقائق يقودنا إلى القول: إن الحروب اليوم تخاض من الداخل، أي من خلال تشتيت وإضعاف وهُزال الجبهات الداخلية، تمهيداً لخضوعها للنفوذ، ووسيلة ذلك في الأساس، مع بعض العوامل المساعدة الأخرى، الإقناع الفكري (بفكرة أو مذهب أو عقيدة).. هذا ما تقوم به إيران في الخليج وفي المحيط العربي، يساعدها في ذلك الظروف التي مرت وتمر بها المنطقة العربية، وضمور من جانب آخر في (استراتيجية) فاعلة لها أولويات واضحة لمواجهة ذلك التدخل الفاضح في النسيج الاجتماعي لدول الخليج.
(الثورة الإيرانية) في نهاية سبعينات القرن الماضي جاءت كإعصار في المنطقة، وكانت ناتجة أساساً عن أخطاء في السياسات التي اتبعها شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي، ساعد في ذلك الخلل، تخلي أو ضمور النخبة الإيرانية عن تبصر أحوال بلادها، إما بسبب القمع وإما الانتهازية، ومن يقرأ كتاب السيد إحسان نراقي، وعنوانه (من بلاط الشاه إلى سجون الثورة) يستطيع أن يلمس كيف ضاعت الفرص وخفتت الأصوات في ربع الساعة الأخير، عن الجهر بأي إصلاح محتمل في إيران، يبعدها عن الانزلاق في الفوضى، كما أن الفاجعة، أن شاه إيران يقول لآخر سفير بريطاني في بلاطه، أنتوني بارسونز، هل المظاهرات في طهران تهتف لي! (كما نقل السفير في كتابه لاحقا: الكبرياء والسقوط)، كناية عن انقطاع صاحب القرار عن نبض الشارع!!
ما تقدم يقودنا إلى القول: إن لإيران استراتيجية واضحة المعالم، وهي التدخل النشط في الجوار، وهي استراتيجية يمكن لأي عاقل أن يراها بوضوح، وتعتمد على مستويين، وهما متداخلان؛ الأول (الهجوم المكثف من كل صوب على المملكة العربية السعودية) لأنها الأكبر، ولأن أي نجاح في خلخلة موقفها، يعني سقوط دول الخليج الأخرى في حضن إيران كثمرة يانعة. أما المستوى الآخر فهو بناء شبكة من الموالين في دول الخليج الأصغر، بطرق تناسب الوضع الداخلي لكل دولة، مع إظهار (الكلام الناعم لبعضها).. هذه الاستراتيجية من مستويين هي المطبقة الآن والسائرة في طريقها مهما اختلفت القيادات في طهران، هي استراتيجية نابعة مما يراه صاحب القرار في طهران أنها تحقق أولاً (حماية لنظامه) وثانياً (أنها ناجحة في العراق وسوريا واليمن ولبنان) وتؤتي أُكُلها، من خلال عملاء، لا يستحيون في إعلان ولائهم خارج أوطانهم، وضد مصالح شعوبهم، فلماذا لا تعمم؟ وهي معتمدة على ما يمكن أن يسمى ضرب الفخار ببعضه (أي حرب العرب بالعرب)! فبعد الحكم النهائي في الكويت، ضد مجموعة ثبت باليقين القاطع أنهم أعدوا عدتهم بالاتفاق مع «حزب الله»، وفي اجتماعات، تم بعضها برعاية السفارة الإيرانية، وتسلحوا بسلاح كثيف للانقضاض على وطنهم، وما أن صدر الحكم العدل، حتى سمعنا فحيح أصوات من أجل (تخفيف) الفعلة الشنعاء لهؤلاء، تحت ذرائع تريد حرف الفعل الذي تم عن مقصده، هو لا أقل من خيانة وطن، وترويع شعب آمن!
الأسئلة كثيرة في هذا المقام، أحدها ماذا يجعل من (النموذج الإيراني) (جاذباً أو يستهوي) بعض أبناء الخليج؟ قد أفهم أنه جاذب لبعض أبناء لبنان من الطائفة الشيعية الكريمة (قلت البعض ولم أقل الكل) لأن كثيرين منهم شعروا في أوقات سابقة من حكم القلة في لبنان! بالتهميش، ويتندر كثيرون في لبنان على قول يشاع عن أحمد الأسعد، (في فترة كان رئيس البرلمان اللبناني) وممثل الطائفة من الجنوب، حين ما طالبوه بفتح مدارس لتعليم أبنائهم، قال (نحن نعلم الولد كامل)! نكتة مُرة، وقد تشتت أبناء الجنوب اللبناني في أنحاء العالم، طلباً للرزق، ككثيرين من أبناء لبنان، وجاء أبناء الجنوب إلى الخليج في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وقليلون من مستضيفيهم يعرفون أنهم من الطائفة الشيعية الكريمة، هم لبنانيون فقط! كما أن كثيرين منهم في الجنوب عانوا من ضغوط من (المقاومة الفلسطينية في أرض فتح) إلى درجة أن هناك تقارير شبه مؤكدة أن البعض منهم قابلوا قوات الاحتلال الإسرائيلي بنثر الرز عليهم ابتهاجاً عام 1982! وتتطور القصة إلى التدخل الإيراني، الذي لم يكن راضياً عن (حركة أمل الشيعية اللبنانية) فخلق تابعاً له هو «حزب الله» (على أساس أن كل الأحزاب الأخرى هي أحزاب الشيطان!!). هذه المقدمة المختصرة، لأقول: إنه ربما كان هناك مبرر أن يكون النموذج الإيراني (جاذباً) لبعض الطائفة في لبنان لأسباب كثيرة، منها الإغراء المالي، والنفوذ المستحدث، أو لما يسميه اليوم أستاذ البيولوجيا التطورية (روبر دنبر) أن الإنسان بشكل عام، من السهولة أن يقدم الولاء إلى مجموعات صغيرة محدودة، يشعر داخلها بالأمان، وهذا ما خلق الخلايا الأولى لـ«حزب الله»، من قرى معزولة، وتقوم علاقتها على القربى والجوار! في هذا الجو العام تم استقطاب وتنظيم وإلحاق المجموعات المنتمية للحزب لإيران، وإعطاء قياداتهم شعوراً (بالأهمية) مرتبطة مباشرة بـ(الرضا) الإيراني، ومن ثم تم استخدامهم (كبندقية للإيجار) ضد أبناء وطنهم، أو في أي ساحة تحقق فيها مصالح إيرانية.
على مقلب آخر ماذا يغري مواطن كويتي أو خليجي كي ينجذب إلى النموذج الإيراني؟ لا أريد أن أقول إن المواطن الخليجي (يعيش في دعة وخال من المنغصات)، ولكن لأي عاقل، فإن الوضع لديه بالمقارنة من حيث الحريات النسبية، ومن حيث توفر سبل المعيشة العامة، وبل وحتى حرية المعتقد، والوضع الاقتصادي العام، بل والأمن الشخصي، هي أفضل بأي المقاييس مما يعانيه المواطن الإيراني، الذي يقدِّم أبناءه للحروب أو تتدهور الحالة المعيشية لديه، والأكثر التضييق على الحريات حتى عد الأنفاس على المواطنين، هذا من جانب، أما الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية أن الشيعي الخليجي (في الغالب عربي) وحتى منهم من أصول إيرانية (أصبحوا ذوي ثقافة عربية وذابوا فيها، وقدموا إسهامات مشهودة لتنمية أوطانهم)، هؤلاء جميعهم (اعراب) لدى النظام الإيراني، (حفاة وأكلة جراد)! وتجربة المعارضين العراقيين في إيران من شيعة العراق تضج بالشكوى من المعاملة الدونية التي تم التعامل معهم في إيران، أيام هجرتهم القسرية، بل إن من خان وطنه ينظر إليه في طهران بازدراء، هو حطب نار لا أكثر، وما أن يخرج من وطنه حتى يتحول إلى رماد. مرة أخرى تجربة السعوديين الذين أغروا في الثمانينات ثم واجهوا الصلف، عادوا من جديد لأحضان وطنهم. اندفاع القلة الخليجية إلى النموذج الإيراني عبر «حزب الله» اللبناني - الإيراني، المراد منه (إيرانياً) إصابة النسيج الاجتماعي في دول الخليج بالعطب، وانحسار سلطة الدولة، وجلب الشقاق بين مكونات المجتمع، ودفع البعض إلى (التعاطف) مع القلة، تمهيداً لتوسع الشقة بين المواطنين، ومن ثم انتشار النفوذ الإيراني، والسيطرة على الدولة من الداخل، ذلك بمثابة إعلان حرب لا أقل، ومن الأوفق مقاربة قضية «حزب الله» (خلية العبدلي) الكويتية، ليس كونها كويتية محلية، هي قضية خليجية، وعربية، وقضية أمن وطني، تستحق التفكير العميق للتخفيف من أضرارها عن طريق فهم واضح للأهداف الإيرانية، ويستحسن أن تعالج من كلياتها، وعلى مستوى إقليمي، حيث الفرقة الخليجية تسهم، في حال استمرارها، على ضعف النسيج بمجموعه، واحتمال عطبه، وبالتالي الانقضاض عليه بأبخس الأثمان من خلال تفتيت قوس القزح الاجتماعي، الذي هو من الحقائق الاجتماعية والتاريخية في الخليج.

آخر الكلام:
يقول أنتوني بارسونز الذي خدم في إيران كسفير، بين عامي 1974 - 1979 (لماذا فشلت أنا رغم خبرتي في المنطقة، في رؤية ما كان يبدو أمام ناظري وشيك الوقوع)؟