شتيوي الغيثي

غالبية الأمسيات الثقافية في السعودية تصيب الحضور بالملل لكونها تقليدية الطابع، فلا المحاضرات قادرة على جذب الجمهور بفكرها المتجدد، ولا الأمسيات القصصية أو الشعرية بقادرة على شد الناس

منذ مدة طويلة كان الحراك الثقافي السعودي هو الأقوى تقريبا في عدد من السياقات الخليجية، ولعل الثورات العربية أبعدت التفكير من الحراك الثقافي السعودي إلى الحراك السياسي الثوري في الأقطار العربية، فانسحب المشهد السياسي على المشهد الثقافي، وصار المثقف محللا سياسيا أكثر من كونه ذا رؤية نقادة، وربما انخرط مع تيار ثوري أو بقي مع الرؤية الحكومية، أو ربما انعزل عنهما تماما، وقليل جدا من وضع التيارات بلا استثناء أو رؤى الحكومات على المحك. 
المثقف العربي مثقف تياري أكثر منه مثقفا ناقدا، بمعنى أن الرؤية التي تحكم غالبية المثقفين هي الرؤية الغرامشية، أي تلك الرؤية التي تجعل من المثقف كائنا عضويا في جماعة، أو هي رؤية هيدغرية والتي كانت تنضم مع الحكومة (كان هيدغر منضوياً في الحزب النازي أيام هتلر وهي ما حسبت عليه لاحقاً). أو ربما المثقف المنعزل والبعيد تماما عن الحراك الثقافي أو السياسي. المثقف الناقد المثقف الذي يضع الجميع تحت مشرح النقد والتفكيك والمساءلة الفكرية يكاد يغيب في الساحة العربية.
أما إذا ما أردنا تخصيص الحالة للمثقف السعودي فإنه لا يعدو أن يكون صدى أكثر منه صوتاً فاعلاً، أي أنه ينظر للأحداث ولا يفعلها، الحالة النخبوية حتى مدعو الشعبية والجماهيرية لا ينزلون إلى الشارع في حقيقتهم، بل هم مهوسون بكثرة المتابعين في تويتر أو في مواقع التواصل الاجتماعي، أي في العوالم الافتراضية والتي هي عوالم خداعة وغير حقيقية، إذ تغلب عليها المثالية اللفظية دون المثالية السلوكية، فواقع غالبية من هم في تويتر لا يتطابق مع خطابهم التويتري، فضلا عن المثقف الذي مهنته الخطاب وآلياته، وبواقع الحال فإن المثقف السعودي يمارس عمله الثقافي كردة فعل لفعل حاصل، وعادة ما كان الفعل خارجيا، بمعنى أنه لا يعايش الفعل ليرتب ردة فعل تناسبه، بل يستقبل الأفعال من خلال الفضائيات، أو من خلال فضاء مواقع التواصل، فغالبية الثقافة السعودية هي ثقافة (هاشتاقية) إذا صح الاسم، بحيث تنتهي ردة الفعل في المشاركة بهذا الهاشتاق أو ذاك.
لا المثقف التياري ولا المثقف الحكومي ولا ذلك المثقف المنزوي عن الناس ويعيش في عوالمه الخاصة لديهم القدرة على الحراك، وإن كان لهم حراك فهو حراك لصالح غيرهم وليس لصالح الثقافة. وحده المثقف النقدي قادر على تحريك الرؤى الثقافية والسير بها في اتجاهات عديدة كونه قادراً على نقد كافة الاتجاهات وكافة الرؤى وتفكيكها والكشف عن توترها الفكري داخل الخطاب، ومع ذلك تكاد الساحة السعودية تخلو من نوعية هذا المثقف إلا فيما ندر، إذ يلاحظ أن الثقافة تسيطر عليها وسائل التواصل، وتفرض عليها حراكها أكثر مما تجعل الثقافة مستقلة في رؤاها بغض النظر عن صحة الرؤى الثقافية أو عدمها. الاستقلالية الثقافية غائبة ما بين سلطة الخطابات أو التيارات أو الحكومات أو السلطات الجماهيرية، وفي كل الأحوال تبقى الثقافة السعودية راكدة منذ فترة طويلة، أي ما يقارب خمس أو ست سنوات، حتى إن المؤسسات الثقافية على رغم محاولات تحريك مائها الراكد ما زالت دون المستوى بكثير. 
الصحف السعودية تتشابه مع الثقافة بوصفها إحدى وسائل النشر الثقافي، وصفحاتها الثقافية هي أضعف الصفحات، وكتابة الرأي بدأت بالتراجع في بعض الصحف عن السنوات العشر الأخيرة التي كانت فيها الصحافة السعودية على أوسع أبوابها حرية تعبيرية، فضلا عن أن عددا من الصحف تعاني من مشاكل مالية وإدارية تحتاج إلى إعادة رؤية. 
الأندية الأدبية كذلك مازالت تعاني الركود، وكل عمليات الانتخابات التي لم تتكرر من حوالي خمس سنوات وتعدت وقتها المحدد لها، وما زالت وزارة الثقافة والإعلام تعيد النظر في لائحتها التنفيذية لتعيد الكرة كما بدأتها من جديد.
الترفيه في السعودية زاحم الثقافة مزاحمة قوية، والمجتمع بدأ يبحث عن الترفيه، وهذا حق مشروع له في ظل عدم جاذبية الثقافة وعدم قدرتها على منافسة الترفيه، وسبق أن ناديت هنا في «الوطن» إلى «رهفنة» الثقافة أو «ثقفنة» الترفيه حتى يمكن الاستفادة من الجانبين، والسينما خير مثال في كونها ترفيهاً وثقافة في نفس الوقت، فهي أشبه بعملة نقدية ذات وجهين، فضلا عن طريقة الابتكار التي يمكن أن تُقدَّم بها الثقافة. 
غالبية الأمسيات الثقافية في السعودية تصيب الحضور بالملل لكونها تقليدية الطابع، فلا المحاضرات قادرة على جذب الجمهور بفكرها المتجدد، ولا الأمسيات القصصية أو الشعرية بقادرة على شد الناس لكونها تقدم بنفس الطريقة منذ أكثر من عشرين إلى ثلاثين سنة ماضية، ورغم إمكانية الاستفادة من التقنيات البصرية الحديثة في (إخراج) الأمسيات الشعرية مثلا إلا أن المؤسسات الثقافية لم تدخل هذا الجانب مطلقا لكونه مكلفا من الناحية المادية، ولكون القائمين على بعض تلك المؤسسات من الطراز القديم الذي لم يعرف تلك التقنيات ومازال مصرا على قيادة المشهد الثقافي.
حالة الركود الثقافية هي حالة في ركود التجدد الثقافي، بمعنى أن الثقافة تحتاج إلى تحريك مياهها الراكدة كل فترة من خلال تجديد الطرح وتجدد الآليات معا، فما لم تكن هناك رؤى ثقافية جديدة تتقاطع مع الرؤى السابقة، أو ما لم توجد آليات جديدة في تقديم الثقافة بطرق حديثة وجاذبة فإن الثقافة ستبقى مثل ما هي عليه، لكن التجديد الثقافي يستلزم نوعاً من تجدد الرؤى وطرح كل السنوات الماضية على محك النقد، ومساءلة الحراك الثقافي مساءلة نقدية صادقة، وعدم المجاملة لأي مؤسسة أو شخص.