رضوان السيد

 سيطر عليّ الهمُّ والغمُّ في الأيام الماضية، ليس بسبب حرب نصر الله في جرود عرسال فقط، بل لأنّ إعلام «المقاومة» حمل حملةً شعواء على كل الذين لا يخضعون لـ«سيد المقاومة»، ومن بينهم إلى جانب جنبلاط وفارس سعيد، الدكتور جعجع! لذا فعندما أعلنت أخبار «القوات اللبنانية» عن مؤتمرٍ صحفي للدكتور، ظننتُ أنه إنما يريد الردَّ على الحملات عليه من خلال تأكيده على «الثوابت» التي يتمسك بها منذ عقدين، بشأن السلاح غير الشرعي لـ«حزب الله» والميليشيات المشابهة، وضرورة أن ينفرد الجيش الوطني اللبناني بحمل السلاح، وحماية الحدود. بيد أنّ تصريحات قائد «القوات اللبنانية» جاءت مفاجأةً صاعقة. قال إنه لو راجع المرء تصرفات وإنجازات الحزب فيما بين مقاتلة إسرائيل ومقاتلة الإرهاب، فإنّ الحكم التقييمي على هذه الإنجازات يكون إيجابياً!

بيد أنّه ما لم يجر إلقاء ضوء كافٍ عليه من تصريحات جعجع، وخلال التقييم لما يمكن أن يجري في المستقبل القريب في سوريا، استنتاجه بأنّ سائر المخارج من الأزمة تتجه نحو الفيدرالية، وهو أمر ينبغي فهمه والتفكير فيه.

لقد ذكّرتني ملاحظة جعجع عن الفيدرالية ببرنامجه في ثمانينيات القرن الماضي وعنوانه: حالات حتماً! وحالات هذه بقعة في المنطقة المسيحية أراد الدكتور وقتها إنشاءَ مطارٍ فيها، يؤكّد على استقلالية «لبنان المسيحي» عن بيروت ومطارها الذي كان يسيطر على أمنه السوريون. لكن جعجع ومنذ أواخر الثمانينيات ناضل نضالاً عنيفاً من أجل الطائف والدستور الجديد، والذي كان يعني إيثاراً حتمياً لتجربة لبنان العيش المشترك، ومفارقةً لخياره السابق. وقد كلّفه ذلك السجن وحلّ «حزب القوات»، ليخرج بعدها من السجن بطلاً، ويصبح أحد قيادات 14 آذار حاملة راية الطائف والدستور والوحدة الوطنية والدولة الواحدة في مواجهة الهيمنة السورية، ومواجهة السلاح غير الشرعي لـ«حزب الله»، كما مواجهة السيطرة الإيرانية من خلاله على البلاد والعباد. فما الذي غيّر ذلك كلَّه لدى جعجع بعد قرابة العقدين، حتى صار الحزب وأعماله، في نظره، ميزةً للبنان، وعادت الفيدرالية (إحدى عناوين لبنان المسيحي) لتُطِلَّ برأسها، بعد أن دأبنا على اتهام التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل بالانفراد بها في السنوات الأخيرة؟

الواقع أنّ هذا التغيير ليس جديداً، بل بدأ عام 2013 عندما توافق الدكتور جعجع مع العماد عون على اقتراح القانون الأرثوذكسي للانتخابات، والذي عنى أن ينتخب المسيحيون نوابهم بمفردهم، ليكون التمثيل صحيحاً. ووقتها فشلت المحاولة، لتعود فتُطِلَّ برأسها عام 2016-2017 في النقاشات التي لم تنته حول قانون الانتخابات العتيد فيما بين النسبي والتأهيلي والتفضيلي.

وفي السنوات بين 2013 و2017، ومن الأرثوذكسي إلى ترشيح عون (خصمه الرئيسي) للرئاسة، ومن بعد للمضي في مماحكات التأهيلي والتفضيلي.. كنا نعلِّل تحولات الدكتور جعجع بأنها صراعٌ ومزايدات بينهما على الصوت المسيحي وعلى الرئاسة. فقد تمكّن عون أخيراً من إقناع كثرةٍ مسيحيةٍ معتبرة بأنه لا خلاص للمسيحيين في لبنان إلاّ بثلاثة متلازمات: التحالف مع «حزب الله» ضمن تحالف الأقليات بالمنطقة (تحالف تحميه إيران)، وفصل المسيحيين عن المسلمين في الحياة السياسية للنجاة من طوفان الأكثرية، وانتخاب الجنرال رئيساً للجمهورية باعتباره المسيحي القوي، وباعتباره حليفاً لسيد المقاومة المنتصرة!

ولأنّ جعجع، ككل ماروني لديه داء الرئاسة، فإنه سُرعان ما يئس من إمكان الوصول إليها عبر 14 آذار، ولذا عاد إلى أصول الشعار الذي ابتزه منه عون: لبنان المسيحي. ولبنان المسيحي من ضروراته الدخول في تحالف الأقليات، كما يفرضه «سيد المقاومة». وهكذا وبعد خطواتٍ متتالية ومدروسة: من مغادرة 14 آذار، إلى الذهاب للجنرال، والأرثوذكسي والتأهيلي والتفضيلي، انتهى به المطاف عند نصر الله وانتصاراته من جهة، وعند الفيدرالية من جهةٍ أُخرى!

خصوم جعجع السابقون ما احتاروا طويلاً في تعليل تحولاته. قالوا إنها ليست خضوعاً للحقيقة الساطعة، بل هي اقترابٌ من المزاج المسيحي الأقلوي النزعة من جهة، وإرضاءً لـ«سيد المقاومة» من جهة أخرى.

اصطاد الشركاء، الأسد والذئب والثعلب، غزالاً وخروفاً وأرنباً. فقال الذئب لملك الوحوش: الغزال لك، والخروف لي والأرنب للثعلب، فأطار الأسد رأس الذئب الضال، والتفت إلى الثعلب فسارع للقول: القسمة واضحة: الأرنب لفطورك، والغزال لغدائك، والخروف لعشائك! فسأله الأسد باسماً: مَن علمك هذه القسمة العادلة؟ فأجاب: رأس الذئب الطائر! فإذا لم يكن جعجع قد اتعظ من الاغتيالات في 14 آذار، وإلى تحليق الطائرة من دون طيار فوق معراب، فهناك نموذج إيجابي للاعتبار: صيرورة عون رئيساً للجمهورية!