عبيدلي العبيدلي

من المتوقع أن يثير هذا العنوان الكثير من علامات الاستفهام، بل ربما التعجب في ذهن القارئ. فقد ارتبط مفهوم الاستعمار في ذاكرتنا، وهو أمر صحيح، بظاهرة «امتداد السيطرة السياسية والاقتصادية لدولة ما على دولة أخرى، وبالحركة السياسية والعسكرية ظهرت في أوروبا في القرن 15 ثم توسعت خلال القرنين 18 و19، التي جاءت نتيجة للثورة الصناعية في أواخر القرن 18 واخذت في طريق الزوال بعد الحرب العالمية الثانية».
وفي مراحل فتوته، كان الاستعمار يضرب عرض الحائط بكل القوانين الدولية التي كانت تحرم ممارساته، من قتل ونهب، معتمدا في ذلك على قوته العسكرية أولا، وتفوقه العلمي ثانيا، مقارنة مع الدول التي استعمرها في قارتي أفريقيا وآسيا، وبعدهما استراليا.
وكأية ظاهرة سياسية أخرى، حرصت الحركة الاستعمارية على تطوير ذاتها بما يكفل لها تحقيق أهدافها الاستراتيجية، والتي تكمن أساسا، في السيطرة على مقدرات الشعوب، ونهب خيراتها، وضمان التحكم في آليات تطورها بما يضمن استمرار خضوعها للدولة المستعمِرة (بكسر الميم).
وتمظهرت معالم هذا التطور في مجموعة من السلوكيات الاستعمارية التي يمكن حصر الأهم بينها في الممارسات التالية:
1. الانتقال من الغزو العسكري المباشر، إلى الاتفاقيات المجحفة التي تضمن السيطرة، وتحقق النهب، بالاعتماد على جهل الشعوب المستعمرة وتفوق الدول المستعمرة. ولعل في الاتفاقات النفطية المبكرة في المراحل الأولى التي صاحبت اكتشاف النفط في البلدان العربية أدلة دامغة على هذا النوع من الاستعمار. فلم تكفل تلك الاتفاقيات نهب الثروات النفطية، بل حققت أيضا استمرار سيطرة الدول الاستعمارية على المنتجات النفطية التي تقذف بها مصافيها ومصانعها في أسواق البلدان التي نهبتها.
2. تقليص المشاركة العسكرية البشرية للبلدان الغازية، التي بدأت في تطعيم جيوشها بكتل بشرية من سكان البلدان التي استعمرتها. فشاهدنا الجنود الهنود يقاتلون في الجيوش البريطانية خلال الحروب التي شنتها بريطانيا العظمى ضد شعوب أخرى، من بينها الشعوب العربية. واكتفت الظاهرة الاستعمارية بالاحتفاظ بالمناصب القيادية لتلك الجيوش التي تقوم بالتخطيط ولا تشارك في القتال.
3. الاستعانة بالمؤسسات التعليمية والثقافية، فشيدت القوى الاستعمارية مدارسها التبشيرية، وجامعاتها «التنويرية»، التي كان جوهر المهام التي تحققها هي «غسل عقول» نخب البلدان المستعمرة (بفتح الميم) بما يضمن خضوعها للدوائر الحاكمة في العواصم المستعمرة (بكسر الميم)، والحيلولة دون تمردها عليها. هذا لا ينفي وجود بعض الاستثناءات القليلة، ولا ينفي أيضا استفادة تلك الشعوب من تلك المؤسسات. لكن ذلك أيضا لا ينبغي ان يغيب عن تلك الشعوب ذلك الهدف الاستراتيجي الكامن وراء تشييد تلك المؤسسات.
4. الاستعانة بالشعارات البراقة، التي تداعب مشاعر الشعوب وتؤجج عواطفها، وكان الاستعمار السوفياتي الأكثر براعة في ذلك. فقد استفادت المؤسسة السوفياتية الحاكمة، في مراحل صراعها مع الامبرياليات الصاعدة، من حركات التحرير المناهضة لتلك الامبرياليات في صراعها على اقتسام مناطق النفوذ فيما بينها. وفي التجربتين الأفغانية واليمنية أمثلة دامغة تكشف الجوهر الاستعماري للتوسع السوفيتي.
في غمرة كل ذلك لم يستطع الاستعمار أن يموه جلده. فقد كانت عمليات النهب واضحة، مهما غلفتها نصوص الاتفاقيات، وأهداف السيطرة جلية، مهما سترها بريق المؤسسات التعليمية، والمراكز الثقافية.
لكننا اليوم نشاهد ظاهرة استعمارية جديدة، فبدلا ما كانت الدول المستعمرة تفرض سيطرتها على الدول التي تسعى لاستعمارها، وجدنا اليوم، شعوب هذه الأخيرة، وبسلوك طوعي ذاتي، تتبرع كي تتحول، وبقرار ذاتي، إلى دول مستعمرة (بفتح الميم).
وتماما كما كانت حركة الاستعمار التقليدي القديم نتيجة «للثورة الصناعية في أواخر القرن 18 واخذ في طريق الزوال بعد الحرب العالمية الثانية ويتمثل في الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي. الاستعمار الجديد، (ثم غير سحنته) بعد الحرب العالمية الثانية وهو الذي يتستر وراء الشركات الاحتكارية والعولمة والتجارة»، نجده اليوم يجدد نفسه استجابة لثورة الاتصالات والمعلومات التي اجتاحت العواصم الغربية قبل سواها من عواصم الدول الأخرى، وتلبية لاحتياجات الاحتكارات العملاقة التي تقف وراء تلك الثورة، ولم تعد أسواقها المحلية تشفي غليل أطماعها في زيادة الأرباح سوية مع توسيع مساحة الأسواق.
الفرق الجوهري بين الظاهرتين الاستعماريتين، أن الأولى كانت فرضا من المستعمر (بكسر الميم) على المستعمر (بفتح الميم) فيما هي اليوم قرار ذاتي عفوي من هذا الأخير لصالح الأول. فما يبحث عنها المستعمر اليوم هو المعلومة التي يوظفها بشكل مبدع ومبتكر كي يسخرها في احكام قبضته، وبشكل «ناعم» مموه على مقدرات الشعوب وثرواتها، لكن هذه المرة ليست الطبيعية بل البشرية، إن جاز لنا القول.
وسنكتفي هنا بأكثر الظواهر شفافية، وهي تلك المعلومات التي تختزنها وتعيد بثها ذاكرة الهواتف الذكية النقالة التي باتت نسبة انتشارها في صفوف شعوب الدول النامية، بمن فيها الفقيرة تتجاوز المئة في المئة، أي أن بحوزة كل مواطن ما يزيد على الهاتف الواحد، وربما الهاتفين. يقتني مواطن هذه الدول الهاتف الذكي بمحض إرادته، ثم يسارع من خلال شبكات التواصل الاجتماعي بنشر المعلومات التي تخزنها الشركات العملاقة في الدول المستعمرة (بكسر الميم)، كي تنقلها بدورها إلى دوائر صنع القرار في تلك الدول، التي تستفيد منها، وهنا مربط الفرس، في إحكام قبضتها، لكن هذه المرة ليس على الثروات الطبيعية لتلك البلدان، بل على عقول مواردها البشرية.
وعليه، وبدلا من ان ترسل تلك الدول جحافل جيوشها لاحتلال البلدان، وبدلا من ان تلجأ للاتفاقيات المجحفة لنهب خيراتها، نجدها في نشر منتجات ثورة الاتصالات والمعلومات في صفوف مواطني الدول النامية كي يتبرعوا ذاتيا بتزويد تلك الدول بما تحتاجه من معلومات تضمن لها ما تريده.
عليه تحول الاستعمار في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات من غاز خارجي، إلى مخترق داخلي، وبقرار ذاتي من مواطني الدول المستعمرة (بفتح الميم). وللعلم فقط، ولمن لا يعلم، فإن تطبيق (فايبر) الذي يؤمن المكالمات الهاتفية الدولية دون مقابل، والذي تباهى المستخدم العربي باستخدامه كي يتفادى دفع خدمة تقدمها له شركته الوطنية، هو من صنع شركة إسرائيلية وهي التي تملك حقوق ملكيته الفكرية.
وهكذا في غمرة أوهامنا بأننا نستمتع بخدمات توفرها ثورة الاتصالات والمعلومات نتبرع طوعيا وذاتيا للعودة مجددا إلى حظيرة الاستعمار. في اختصار نحن نستعمر أنفسنا ذاتيا!