فـــؤاد مطـــر 

بعد ستة عقود من الزمن المصري الحافل بالصدمات إلى جانب حالات من التألق الوطني العربي والإقليمي والدولي، يعيد الرئيس عبد الفتاح السيسي الاعتبار إلى اللواء محمد نجيب بإطلاق اسمه على القاعدة العسكرية الأكبر بين القواعد المصرية، ويحدُث ذلك من دون مقدمات ولا حتى مطالب وإنما بدافع ضمير إنسان رأى تصحيح التعامُل مع رفيق سلاح وثورة، وكان ذلك التعامل بمثابة ندبة في تاريخ ثورة 23 يوليو، ثم ها هو الرئيس السيسي يختار التوقيت وهو الذكرى الخامسة والستون لثورة 23 يوليو 1952 فيصحح لمناسبة إنجاز القاعدة العسكرية الأهم في مصر، وبحضور رموز السند المتبادل المصري – الخليجي، ما لم يتم تصحيحه، وذلك بإطلاق اسم «اللواء محمد نجيب» على تلك القاعدة التي تحمل في طياتها من حيث التوقيت والمكان والنوعية بضع رسائل في عدة اتجاهات يستطيع اللبيب فهْم إشاراتها.


عند قيام ثورة 23 يوليو 1952 كان محمد نجيب في الحادية والخمسين من العمر يكبر عبد الناصر بحوالي عشرين سنة. أما الرئيس السيسي فلم يكن شاهداً على الذي جرى بالنسبة إلى حدوث الثورة وصراعات رموزها.
وبدأ المصريون يتناسون الرئيس الأول لجمهوريتهم الفتية ما دامت وسائل الإعلام لا تأتي على ذِكْره. وأما المعلومات المتداولة عن حالته فكانت حول تمضيته الأيام الصعبة تؤنس وحدته في إقامته الإجبارية بعض القطط.
وبالنسبة لي كصحافي مثابر على متابعة الأحوال السياسية في مصر، كنتُ باستمرار أتقصّى ما يمكن معرفته عن حالة الرئيس محمد نجيب. كما أنني بحكم زياراتي الكثيرة إلى السودان كنتُ أستطلع عن حالة الرئيس المحجور عليه ما يمكن استطلاعه من بعض المسؤولين الأصدقاء في العهد السوداني الحائر ونجومه المتألقة (إسماعيل الأزهري، محمد أحمد محجوب، محمد عثمان الميرغني، عبد الخالق محجوب، حسن الترابي)، ثم في العهد السوداني الثائر، (الرئيس جعفر نميري ورفاقه أعضاء مجلس قيادة ثورة مايو 1969). وكان هؤلاء بحكم اعتبار محمد نجيب «أخو إخوان» لهم وأنه خلطة مصرية - سودانية يخبرونني بما لديهم من معلومات عن «الرئيس المظلوم» على نحو توصيفهم لحالته. وهذه المعلومات جعلتْني أغتنم فرصة جلسات من الحوار خلال سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) من العام 1974 مع الصديق الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي كان بات خارج الدور الرسمي ومستقيلاً من «الأهرام» انتهت كتاباً بعنوان «بصراحة عن عبد الناصر» لكي أعرف منه وقد بات الرئيس العازل (عبد الناصر) في ذمة الله والمعزول (محمد نجيب) يكابد أعراض الشيخوخة، حقيقة الأزمة التي بقيت باستمرار طوال السنوات الناصرية حبيسة الذاكرة. وخلاصة ما رواه هيكل أن مسألة السن هي وراء اختيار محمد نجيب رئيساً للجمهورية وليس جمال عبد الناصر (32 سنة زمن ذاك) الذي هو قائد ثورة 23 يوليو. وهو اختار محمد نجيب للترؤس، لأن المزاج الشعبي المصري الذي اعتاد على قادة سياسيين ووزراء في أعمار خمسينية متقدمة لا يتحمل رئيساً ثلاثيني العمر، وارتضى ممارسة دور الرجل الثاني. كما في رأي هيكل - ثمة حيثية أُخرى وهي أن محمد نجيب غير معرَّض للخطر لأن «الضباط الأحرار» عرضوا عليه تصدُّر الحركة، وبذلك بات في مأمن، كما أن الحكومة وبتوجيه من الملك فاروق كلَّفتْه تسوية الأمور داخل المؤسسة العسكرية بعدما تناهى إليها ما يشير إلى حالة من التململ في أوساط ضباط الجيش.
ما لم يقله هيكل أورده سامي شرف الذي يعرف الكثير من الوثائق والأسرار الرئاسية بحكم سنوات عمله في ديوان مكتب عبد الناصر (سكرتير الرئيس للمعلومات بدءاً من العام 1955 ثم عام 1970 لبضعة أشهر وزير دولة فوزير لشؤون رئاسة الجمهورية) وبين المنصبيْن دورة في البيت الأبيض، في واشنطن ذات التسمية «كيف تخدم الرئيس» إلى جانب درْس أساليب العمل في كل من الكرملين ورئاسة الجمهورية في مكتب الماريشال تيتو، وكذلك في الهند والصين الشعبية، ففي مذكراته التي نشرها بعدما بات خارج المسؤولية الرسمية منذ وفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1970) يقول إن مزايا كثيرة في شخص محمد نجيب جعلت عبد الناصر ورفاقه يختارونه قائداً عاماً للقوات المسلحة فأول رئيس للجمهورية، لكن هذه الصيغة أحدثت بداية تشققات داخل مجموعة ضباط الثورة، فضلاً عن أن محمد نجيب بدأ يتصرف على أساس أن الشعبية المصرية والسودانية التي لاقاها في الأشهر الأولى لتنصيبه رئيساً للجمهورية جعلتْه يرى توسيع هامش حركته السياسية بما أقلق عبد الناصر ورفاقه. ثم كان القرار بوضعه قيد الإقامة الجبرية في «قصر المرج» الذي كانت تملكه زوجة الزعيم السياسي المرموق مصطفى النحاس. وتبين أن القصر في حال سيئة الأمر الذي جعل محمد نجيب يقيم في حجرة واحدة غير لائقة، وعلى راتب قدره ثلاثمائة جنيه شهرياً ووضْع سيارة جديدة لتنقلاته، لأن سيارته أصبحت في حال سيئة.
وتشاء الأقدار أن يرحل عبد الناصر ويبقى محمد نجيب على قيد الحياة أربع عشرة سنة بعد رحيله. ومرت ثلاث وثلاثون سنة على رحيله محفوفاً تاريخه بألغاز وأسرار لا حصر لها إلى أن حانت لحظة إعادة الاعتبار، ولو بعد حين من جانب الرئيس عبد الفتاح السيسي. وهي لفتة استقبلها بالإشادة الجيل المصري المخضرم ثم الجيل الذي يعيش وهج ثورتيْن تزامنت ذكراهما في وقت واحد مع لفتة الرئيس السيسي التي كان توقيت حدوثها في حد ذاته خير تكريم لرئيس رحل عن 84 سنة وهو حزين النفس.