عبدالله بشارة

في نهاية إحدى الجلسات في مجلس الأمن عام 1978، عندما كانت الكويت عضواً في مجلس الأمن الدولي، سألت المندوب السوفيتي الدائم في الأمم المتحدة عن الأسباب التي جمعت فيها حكومته أكثر من مئة فيتو منذ بداية عمل مجلس الأمن في نهاية 1946، فمنذ ذلك الوقت جمعت موسكو أكثر من 150 فيتو في حقيبتها الدبلوماسية، وكان جوابه إننا أقلية في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، لا نملك الأصوات التي تساعدنا، لا نحتاج إلى الفيتو، وليس لنا معين غير الفيتو.
فكان ردي: إنكم تعطلون إرادة الأسرة العالمية، وإنكم تتنكرون لحقوق شعوب وتقتلون طموحات، وبدلاً من نجدتكم للمستضعفين، تفشلون توقعاتهم، ولهذا يلجأون إلى العنف واليأس وانقطاع الأمل في مستقبل أفضل.
كان هذا السفير البارز، المترجم الخاص لنيكيتا خروتشوف، هذا السفير، واسمه مالنوفيسكي، عاش في أميركا عندما كان صغيراً مع والده الدبلوماسي فأتقن الانكليزية، كان مهذباً ومنفتحاً على الحياة، كأنه من نبلاء القياصرة.
وربما كان هذا الموقف الذي أشار إليه السفير عن الأقلية صحيحاً، في معظم الأحيان، لكن ما قاله لا يمثل كل الحقيقة التي تجب معرفتها من تاريخ القياصرة ومن طباع الشعب الروسي السلافي.
كان الدور الأكبر لواقع الفكر السياسي الروسي ينطلق من جغرافية روسيا الضخمة الممتدة من المحيط الباسيفيكي إلى بحر البلطيق، ومن فنلندا شمالاً إلى منغوليا في وسط آسيا، مطوقة بجبال ووديان وأنهر، كان يصعب تجاوزها في العصر القديم، وعاش الشعب منعزلاً مطمئناً داخل هذه الحدود الغليظة والواقية، ولم يتشرب بالتطورات الاجتماعية والفكرية، ولم يتأثر بالتقلبات السياسية الأوروبية، وظلت الأوضاع الاجتماعية في عزلة عمّا يحدث في أوروبا، وسط محيط شبه مغلق وتحت نظام أوتوقراطي ناشف ممثلاً في أسرة الرومانوف Romanov، اقطاعي يعيش في دائرة الأقارب ومساعديهم وكلهم من طبقة النبلاء، مع رجال الكنيسة بسلطتها المتحكمة.
وظلت هذه الحالة مع بداية تغييرات صغيرة ومشجعة تمثلت في أداء كل من القيصر بيتر الأكبر Peter the great، وحكم الملكة كاترين المتميزة، وكانا هما العامل الأكبر في وضع حجر الانفتاح واستدعاء العلماء والفنانين، والمفكرين وأصحاب المواهب من الغرب، ولم ينحصر التأثير في دائرة العلم والفن فقط، وإنما أثر في نظام البروتوكول وأسلوب الملوك وأناقة الموضة.
وقد شيدت الملكة كاترين صداقات مع أصحاب الفكر مثل المفكر الفرنسي فولتير، كما انفتحت على نظام الحكم في برلين في عهد الامبراطور فردريك الأكبر، مؤسس الفلسفة العسكرية الألمانية.
وتعثرت قنوات التواصل عندما برز نابليون إمبراطوراً يحكم ويتحكم في أوروبا، ولم يكن معجباً بنظام الحياة في روسيا، ولم يرتح لنوايا القيصر الروسي الكسندر Alexander، الذي كان يدبر خطة للتخلص من سطوة نابليون وقبضته على أوروبا، ولهذا قرر الانتقام في عام 1812، بإعداد أكبر جيش في تاريخ أوروبا (600 ألف مقاتل) أخذهم إلى روسيا واحتل موسكو التي انسحب منها القيصر الكسندر، وأحرقها تماماً وجاء الشتاء، وانقطع الطعام والدواء عن ذلك الجيش الكبير الذي بدأ يتفتت، فقد أضعفته الأمراض والجوع، وبعدها بالكاد بدأت روسيا تنفتح في علاقات استراتيجية مع أوروبا، وسارت الأمور طبيعية مع تدرج التواصل مع الأنظمة الملكية في أوروبا، حتى الحرب العالمية الأولى التي شاركت فيها روسيا ضد ألمانيا والامبراطورية النمساوية والدولة العثمانية، وتعثرت قواتها المسلحة مع ضغط شعبي أدى إلى سقوط النظام القيصري وبروز دولة لينين.
هذه الثقافة السياسية المتحكمة في خطوط الدبلوماسية الروسية تجدها بشكل واضح في أداء روسيا تجاه الوضع في سوريا، فيقول وزير الخارجية لافروف «لن نسمح بتكرار سيناريو ليبيا»، يقصد إزالة القذافي وتدخل قوات الناتو بشرعية مجلس الأمن، ولن تسمح روسيا بسقوط نظام الأسد الذي كاد يقع منذ سنة لولا النجدة الجوية التي أضعفت المعارضة وشاركت في معارك حلب مع النظام تحت غطاء الارهاب، وتتحرك الآن على مسارين: الأول العسكري لإضعاف المعارضة وتأكيد سطوة النظام في الشريط البحري الشمالي، والمشاركة مع الولايات المتحدة في مناطق آمنة محاذية للحدود. والمسار الثاني سياسي وجوهره حماية النظام السياسي والدفاع بصيغة تؤمن مشاركته في مستقبل سوريا والفرض على المعارضة لقبول حلول تنهي تماما دورها العسكري، وقد تلاشت أوراق المعارضة وانحصر أملها في مفاوضات جنيف، ولهذا يصرح الوزير الروسي بأن حروب المعارضة انتهت وبقي لها غطاء جنيف.
ولم يتخلف لافروف وزير خارجية روسيا عن التقليد الروسي التاريخي في الشك، وفي توظيف التعطيل والامتناع عن تقديم مقترحات والاكتفاء بإفشال المقترحات الأوروبية، وتأخير الحلول لكي تضيع الخيارات على المعارضة وعلى خصوم موسكو، ويبقى الحل في يدها.
لا أتذكر خلال عملي في الامم المتحدة، وبالذات خلال عضوية الكويت في مجلس الأمن، أن الاتحاد السوفيتي قدم مقترحاً يسهل المسار المنطقي، فمازالت روسيا تطل على العالم من منظار الشك المتوارث، مأساة الشعب السوري تأتي من عقد التاريخ.