محمد علي فرحات

وصل سياسيو العراق إلى الجدار المسدود. ها هو وطنهم يتهدّم بفعل استيلاء «داعش» على جزء كبير من مساحته وبفعل الحرب المستمرة لتحريره من هذا التنظيم. الجدار مسدود أمام الحكم والمعارضة، وبالتالي أمام العرب سنّة وشيعة، فليس باللجوء إلى المتطرفين يستعيد العراقيون وطنهم، وليس بإلصاق التهم بالشركاء يتم إضعافهم والاستيلاء على نفوذهم السياسي والاقتصادي والثقافي.

وبعيداً من شعور طهران بالخطر على نفوذها، ثمة مؤشرات شعبية عراقية واضحة إلى أن السياسيين الذين تسلّموا الحكم من المحتلّ الأميركي قد فشلوا، وأن المحيطين بصدام حسين، إن وجدوا، ومعهم مؤيدوه الذين يحنّون إلى عهده، لا يشكّلون بديلاً، فهم أسقطوا أنفسهم حين حرّضوا على انتحار نينوى لمجرد الانتقام، ويشاركهم المسؤولية رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي الذي يُجمع الأطراف على أنه ضيّق الأفق.

ابتعد السيد عمّار الحكيم عن «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، خصوصاً عن الذين شاركوه في تشكيل المجلس في إيران، وعمد إلى تقريب الشباب لتشكيل حزب بديل سمّاه «تيار الحكمة الوطني»، تاركاً الصيغة الطائفية وطارحاً نفسه وحزبه في خدمة المواطنة.

وتكرّست الفرقة بين رئيسي الوزراء الحالي حيدر العبادي والسابق نوري المالكي الشريكين أيضاً في قيادة «حزب الدعوة» الذي يضع كتابات سيد قطب في صدارة أدبياته إلى جانب مؤلفات السيد محمد باقر الصدر. ويتهيأ العبادي لإعلان حزب جديد باسم «الحرية وإعادة البناء» منفتحاً على عراقيين من أديان وطوائف وإتنيات عدة.

واستتباعاً لشراكة رئيس البرلمان سليم الجبوري في الحكم الذي تهيمن عليه أحزاب شيعية، فإنه سيتبع نهج زعماء هذه الأحزاب ليؤلف حزباً منفتحاً بدوره على الأطياف العراقية كلها.

هكذا يعبُرُ السياسيون العراقيون الطوائف، ليس نتيجة نقد ذاتي لمسارات أكملت التخريب الذي بدأه المحتل الأميركي، بل لأن الطائفية السياسية وصلت إلى جدار مسدود ووزّعت العراق إقطاعات على قوى الإقليم وقوى عالمية.

ولم تحمل الأنباء خبراً عن عزم نوري المالكي على تشكيل حزب جديد. يبدو أنه سيرث «حزب الدعوة» بما فيه من أيديولوجيا إخوانية ذات مسحة شيعية، لكنه إذ يعي أن الزمن تخطى أدبيات حزبه، فقد نظم لنفسه زيارة رسمية لموسكو اجتمع خلالها مع الرئيس فلاديمير بوتين ساعياً إلى استدعاء النفوذ الروسي إلى العراق ليوازن النفوذ الأميركي، ذلك أن النفوذ الإيراني الطاغي لم يعد مقبولاً وهذا ما يدركه المالكي جيداً وتدركه طهران.

وإذا كانت زيارة المالكي موسكو لاستدعاء نفوذها حاجة إيرانية بسبب الحلف القائم في المنطقة بين الدولتين، فإن العراق الذي عجزت حكوماته بعد الاحتلال الأميركي عن ملء فراغ سبّبه انهيار الدولة وجيشها، يحتاج لملء هذا الفراغ إلى حكومات عابرة للطوائف يطمئنّ إلى سياساتها العراقيون، كما يحتاج إلى توازنات في نفوذ الجيران بعدما أدت وحدانية النفوذ الإيراني إلى عزلة العراق عن محيطه الجغرافي وتفكُّك جماعاته وانتشار أجواء انعدام الثقة بينها لئلا نقول العداء.

لذلك نلاحظ في موازاة تغيير الأحزاب والأقنعة الجديدة للسياسيين، زيارات متبادلة بين بغداد والرياض واتفاقات اقتصادية وأمنية بين البلدين اللذين تفصل بينهما حدود طويلة تحتاج إلى تحكُّم متبادل، وقد تكون هذه الزيارات تمهيداً لتقارب سياسي يحتاجه العراق، من باب الاستناد إلى عمقه العربي ممثلاً بالسعودية، وفي هذا بعض التوازن الضائع بين إيران وتركيا الصديقتين- اللدودتين.

العراق في مرحلة انتقالية والحرب على «داعش» ستترك فراغاً لن يملأه «الحشد» ولا التكتُّلات الطائفية ولا النفوذ الإيراني. المرشّح الوحيد لهذا الاستحقاق هو الدولة العراقية الجامعة وأحزاب سياسية منفتحة على الشعب ومصالحه المتكاملة، ولا تكتفي بأقنعة تحجب التعصُّب وضيق الأفق.