عبيدلي العبيدلي

ربما نختلف عند تقييمنا لأنفسنا كعرب عند قياس درجة التراجع، لكيلا نستخدم صفة الانحطاط، مقارنة مع غيرنا من الدول، بمن فيها تلك التي تنتمي، كما ننتسب نحن، إلى العالم النامي. لكننا نجمع على أننا لا نعيش عصرنا الذهبي، على الرغم من بعض البريق الزائف الذي تشهده هذه الدولة أو تلك من مظاهر التقدم، مثل السيولة النقدية، أو العمران العقاري. وسواء رفضنا، ضمنيًا او علانية الاعتراف بذلك، فالحقائق المرة تفرض ذاتها، ولا تجد نفسها في حاجة كي يعترف بها من يعيشها ولا يكف عن إصراره على نفيها. 

علامات ذلك التراجع واضحة، وتكاد أن تعمي أبصار من يتحدونها باللجاجة على النفي، والتمترس وراء أقنعة زائفة واهية غير قادرة على الصمود في وجه أوهى هبة ريح. 

ويمكن تلمس هذا التراجع على أكثر من صعيد، وفي أكثر من وجه.

فعلى الصعيد الاقتصادي، وهو الأهم، ينبغي ألا توفر بعض السيولة، في مراحل معينة، في صناديق السيادة الوطنية مبررًا واهيًا، كي نغرق في أوهام تقدم اقتصادي مزيف. فمثل هذه السيولة، رغم ضآلة حجمها مقارنة مع تلك المتوفرة لدى بلدان أخرى، لم تعد من المعايير الرئيسة المعمول بها لقياس تقدم بلد ما أو تخلفه. فمع ثورة الاتصالات والمعلومات والمعرفة، تراجعت حصة الرأسمال النقدي لصالح الرأسمال البشري، الذي تبوأ قمة المعايير التي يقاس بها تقدم بلد ما من تخلف بلد آخر. ولو قمنا بجردة سريعة لواقع البلدان العربية، بما فيها تلك التي تنعم بفوائض الأموال السائلة، فسوف نكتشف أن نسبة تطور الموارد البشرية فيها متدنية مقارنة مع بلدان أخرى، نجحت، ليس بفضل وفرة سيولتها النقدية، وإنما جراء تكريس جهود خططها التنموية للارتقاء بمستوى أداء مواردها البشرية، وليس لزيادة ارتفاع مبانيها العقارية.

وبالتالي، ونظرًا لتحول العالم إلى ما يشبه القرية الصغيرة، لم تعدْ مقاييس التقدم والتخلف مطلقة تفصل بلد عن آخر، وإنما باتت نسبية تقارن كل دولة مع دولة أخرى. وعليه يتربع العرب في قاع بئر التقدم الاقتصادي مقارنة مع سواهم من الأمم الأخرى. لا ينفي ذلك، كما سبق وأشرنا، بريق مدن تستر عيوبها غابات العقار الإسمنتي، ولا رنين نقود فتات الثروات النفطية، التي باتت مهددة بالتلاشي بفضل الظروف العربية القائمة والسياسات العربية المتبعة.

ويزداد الوضع سوءًا عندما نقترب من لوحة مقاييس الواقع السياسي، حيث تطفو على السطح خارطة الصدامات، وليس الخلافات، العربية المسلحة فحسب. لقد تحولت البلاد العربية إلى «ساحات وغى»، إن جاز التعبير، ليست مباشرة فحسب، ولكن بالوكالة أيضا. فمن أقصى المغرب العربي، حتى أدنى جنوب الجزيرة العربية، المعارك مشتعلة، ولا تكاد أن تنطفئ نيران واحدة منها حتى تندلع أخرى مكانها. خطورة هذا الواقع لا تنحصر في إطار استنزاف القوى العسكرية العربية فحسب، ولكن يتسع كي ينال العلاقات السياسية بين الدول العربية ذاتها، الأمر الذي من شأنه بناء بيئة سياسية عربية خصبة لإثارة المزيد من النعرات، وتأجيج الصدامات التي ستتحول إلى ما يشبه الحالة المستدامة، التي يصعب، إن لم يكن من المحال، وضع حلول شافية لها.

يتطور الأمر إلى حالة أشد تعقيدًا عندما نصل إلى الواقع الاجتماعي العربي، فقد قادت الصدامات العسكرية، والتراجع الاقتصادي، سوية إلى اصطفافات طائفية وعرقية غير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر. خطورة هذه الاصطفافات أنها لم تعدْ محصورة في قمة الهرم الاجتماعي العربي، بل تجاوزته كي تصل إلى قاعدة التكوينات الاجتماعية العربية، ثم تسلقت مستعينة بالقوى الخارجية التي وجدتها فرصتها الذهبية في تشظية النسيج الاجتماعي العربي إلى درجة بات من الصعوبة بمكان رتقه. ولا بد لنا من التوقف عند مسألة التشظي الاجتماعي هذه كونها ألهت العرب عن قضيتهم المركزية والتي هي القضية الفلسطينية. فاستنزفت الجهود العربية في معالجة هذه القضايا الثانوية، عوضًا عن تجييرها لمواجهة العدو الرئيس والذي هو الكيان الصهيوني، الذي بدوره وجد الظروف ملائمة لتمرير الكثير من مشاريعه. وليس ما جرى ولا يزال يجري في المسجد الأقصى اليوم إلا إحدى العلامات البارزة على هذا الصعيد. 

لم يكن المقصود من وراء تشخيص هذه الحالة العربية إيصال القارئ العربي إلى حالة من الإحباط، بقدر ما هي الإحاطة العلمية الصحيحة التي تساعد المعاين على وصف العقار الشافي. والخطوة الأولى على طريق الوصول إلى الدواء هو الاعتراف بتلك الحالة، وقرار صارم بعدم الهروب من مواجهتها. 

يعقب ذلك توفر النية الصادقة البعيدة كل البعد عن أمراض الأنانية الذاتية التي تحاول أن تؤصل نفسها في أذهان دوائر صناع القرار العربي. ففي غياب مثل هذا الإصرار تفقد القرارات جواها وتصبح مادة غنية للتندر إن لم يكن السخرية على الصعيد العربي، والشماتة على المستوى الخارجي.

يتوج ذلك بجهود جهدة مخلصة لاستئصال جذور الشقاق، وتجفيف منابع الخلافات، تقوم على إيمان عميق مشترك بضرورة تنسيق الجهود العربية، كي لا نحلم هذه المرحلة بالوصول إلى توحيدها. استئصال تلك الجذور، وتجفيف تلك المنابع لن يتأتى بالنيات فحسب، وإن يتطلب أيضا الترجمة الفورية المدروسة إلى برامج فعلية قابلة للتنفيذ تبدأ في صفوف أعلى قمة الهرم العربي، وتتدرج هبوطا كي تصل إلى المواطن العربي في أسفل قاعدة الهم الاجتماعي.

ولربما تبدأ هذه المبادرة بالتوجه السريع نحو مقاعد الدراسة، فعليها يجلس أنوية جيل المستقبل الذي بين يديه آفاق مصير المستقبل العربي المقبل، وهو وحده القادر على إخراج الواقع العربي الحالي من عنق الزجاجة التي تمسك بتلابيبه. وحينها لن تكون خلافاتنا حول درجة التراجع التي وصلنا اليها، بل بشأن مستوى التقدم الذي نحرزه.