بول شاوول

لا نعرف، منطقياً، لماذا يغضب «حزب الله» وربعه ممّن يسمّون أنفسهم مقاومة أو ممانعة، عندما يعتبر الجزء الأكبر من الشعب اللبناني أنّ سلاحه لا يمثّل الشرعية، وأنّ حروبه الداخلية، والخارجية، لا تمثّل الشرعية؟ هذا هو الواقع.

فالحكومة اللبنانية، والبرلمان، ورئاسة الجمهورية، كما نعلم تمثّل هي الشرعية. بكل وضوح وبساطة، تماماً كما يساوي واحد وواحد اثنين. فباللغة الحسابية، والعقلية، والسياسية، لا يمثّل «حزب الله» إلا نفسه؛ ولأنّه لا يمثّل نفسه تماماً، بل «الشرعية» الإيرانية، فيعني أنّ قراراته «الكبرى» التي وصلته بالبريد السريع من بلاد الفرس، هي فارسية: من تأسيسه في الجنوب كحزب شيعي مقاوم بديلاً من المقاومة الوطنية، وصولاً الى ذهابه إلى سوريا لحماية مقام بشار الأسد، ومروراً بحرب 2006، وغزوة بيروت... ثم ما سبق كلّ ذلك وتلاه من اغتيالات، وانقلابات، وفوضى، وتعميق الفتنة المذهبية، وضرب الدولة، ومحاولة «استيعابه» الجيش، (والشعب) تحت مقولة «الجيش، المقاومة، الشعب»: أيّ جيش، أيّ مقاومة، أيّ شعب؟

وأزمات «الشرعيات» لم يخترعها الحزب، بل انطلق من إرثها ووسّعه، بحيث تجاوزت الاستراتيجيات الوطنية إلى ما هو أبعد منها.

فنحن منذ نحو نصف قرن، نعيش في دوامة «شرعيات» ميليشيوية، أو احتلالية، أو وصائية، أو كانتونية جغرافية طالعة كلها من «نظام» كانتوني «متعدد»، يتبدّل هنا أو هناك، بوجوهه، لكن لا تتبدل أقنعته.

وإذا أردنا اختزال هذه الظواهر، فيمكن أن نضعها تحت عنوان واحد: المقاومات المسلحة هي التي مثّلت كل هذه الشرعيات المتعاقبة. من «شرعية» سلاح المقاومة الفلسطينية، إلى المقاومات المضادة داخلها (تلك التي أنشأها أو ساهم فيها أو دمغها حافظ الأسد، صدّام حسين، ومعمر القذافي... وصولاً الى إسرائيل!).

لم يعرف بلد آخر مثل هذا الكمّ من المقاومات في ظرف أقل من نصف قرن: كل يوم مقاومة، وكل يوم سلاح، وكل يوم «وُجهة»، وكل مقاومة تصبح شرعية، بديلاً من شرعية الدولة. المقاومة الفلسطينية وسمّيت «الحركة الوطنية» كصورة حزبية اختلطت فيها المذهبية مع العلمانية مع اليسارية مع القومية. فصارت هي في نظر جزء من اللبنانيين، الجيش، والحكومة.... حتى حلّت أعلامها محل كل علم في لبنان، حتى أعلام الكشّافة والفرق الرياضية... والجمعيات الخيرية... 

] السلاح الفلسطيني

سلاح المقاومة الفلسطينية هو الذي بات يمثّل «سيادة» لبنان غير الرسمية.. ولكي تكتسب شرعية، فها هو مجلس نوابنا بكل أعضائه (بمن فيهم الأحزاب التي عبّرت بعدها عن رفضها الوجود الفلسطيني المسلّح)، يوافق بالإجماع على «اتفاق القاهرة» ما عدا الزعيم الوطني السيادي الديموقراطي ريمون إدّه وحزبه (الكتلة الوطنية). أقصد كل الأحزاب التي أسست المقاومة المضادة للثورة الفلسطينية صوتّت لشرعنة تسليم الجنوب اللبناني لمنظمة التحرير الفلسطينية. أي أن ورقة الحرب والسلم باتت في أيديها، (طبعاً وأيدي إسرائيل)، وحُفرت عندها دولة رسمية داخل الدولة التي تمثّل السلطات التنفيذية والتشريعية: دويلتان، في لا دولة. وشعبان في لا شعب واحد. 

وعندما اكتملت الدويلات «المضادة»، (الخارجة على القانون)، انتهت الدولة؛ وقُسّم الجيش، وتقاسمت «سلاحه الثقيل والخفيف الميليشيات... ولم تكن تنتظر الحروب سوى إشارة أو حدث: فكانت بوسطة عين الرمانة 1975.

بدأت منذ أكثر من أربعين عاماً، ولم تنتهِ. شرعيات في الشوارع. في الأزقّة. مجالس قضائية، محاكم خاصة وميدانية، ممثلون مرتجلون، أو راسخون... مجازر هنا وأخرى هناك، ثمَّ تهديدات بالسيطرة على كل لبنان: وتحويله من هونغ كونغ الى هانوي. الأحزاب اليسارية والقومية قرّرت أن تستولي على السلطة وتغيّر النظام، بسلاح وشعارات المقاومة الفلسطينية. من هنا مقولة أبو أياد «فلسطين تمر بجونية».... وما تلاها من مقولات مشابهة، حتى سقط ضحّيتها كمال جنبلاط نفسه، على يد نظام حافظ الأسد... الذي، وبدهاء شخصي، وتواطؤ مع إسرائيل وأميركا... قرّر دخول لبنان، أي قرر أن يكون بجيشه «شرعية» أخرى، يوافق عليها جزء من اللبنانيين: إذاً فليدخل، بحسب خطاب الأسد الشهير ليحمي المسيحيين من شر «الفلسطينيين» أو تحديداً من شرّ منظمة التحرير (الممثّل الوحيد للمقاومة الفلسطينية). وهكذا كان، دخل النظام السوري على أنقاض تل الزعتر ومخيّمي جسر الباشا وضبيّه. رائع! الواجهة كانت (الأحزاب التي وافقت على اتفاق القاهرة!)، مسيحية. صار عندنا حافظ الأسد «مقاوماً» في لبنان، ووراءَه إسرائيل وأميركا، وياسر عرفات ووراءَه الامتداد العربي، وهذا يبرّر شعار معركة «عرويالبنان» اعتبار أنّ هؤلاء يمثّلون الانفتاح العروبي، وسوريا والمسيحيون يمثّلون الانعزالية. 

انقسام عمودي بين ما سمّي آنئذٍ «الشعوب اللبنانية»: كل طائفة جعلت من نفسها «شعباً»: «الشعب الماروني»، «الشعب الدرزي»، «الشعب السني»... و«الشعب الفلسطيني»... كل هذه الشعوب تجاورت بكانتوناتها، وبحروبها، وانفصلت في خطوط تماسها (الجغرافية) بين شرقية» «انعزالية» وغربية «عروبية» (علماً أنّ أحزاب الغربية بعيدة عن العروبية كالحزب القومي السوري الاجتماعي، والحزب الشيوعي، ومنظمة العمل الشيوعي...) شيء رائع! عروبيّون ضدّ العروبة، إيديولوجياً، من هنا تأسست «لبنانات» مصغرة على حساب «لبنان الكبير». فأوصلنا هذا الأمر الى واقع أنّه لم يبقَ لا لبنان صغيراً ولا لبنان كبيراً، بل لبنان جغرافياً وتاريخاً، في أيدي الوصايات السورية والليبية والعراقية والفلسطينية يُضاف إليهم الاحتلال الإسرائيلي للجنوب وقيام «دولة لحد» أي مقاومة بتمويل وسلاح وأهداف إسرائيلية. كانتون حدودي ينضاف الى الكانتونات الداخلية!

كل هؤلاء ينادون بشرعيتهم، حتى شُرعنت الميليشيات ومُسِحت ببركة «الاستقلال الذاتي» و«السيادات المبعثرة»، والدويلات العشوائية، والكتل المنغلقة، والحدود الدموية بينها! وما رافقهما من حروب إلغاء بين أبناء الطائفة الواحدة.

شرعية إذاً! فكلّنا مقاومة. إذاً كلّنا شرعية، ولتندلع هذه الحروب المشرعنة، لكي لا تُبقي شيئاً واقفاً في لبنان: حتى الدمار والخراب والموت والمجازر كانت تشرعن لأنّ مرتكبيها «مقاومات» لبنانية، أو سورية أو فلسطينية أو إسرائيلية مشرعنة، حتى بات كل قرار ميليشيوي هنا أو هناك فتوى «إلهية» أو إرادة سماوية، أو تعبيراً «شعبياً»: اختلطت السماء بالأرض، والدينونة بالحياة، فولدت «قدّيسين» وأبطالاً، وعمالقة، وصل بعضهم بمجده الفئوي الى مراتب الأولياء والقدّيسين وغيفارا، ونابوليون، والأميرال نلسون، وستالين...

] ... ودخول إيران

ولم يكن ينقص هذه الخلطات الميليشيوية سوى دخول إيران الى الساحة اللبنانية، بميليشيا جديدة تنضم الى ركب الميليشيات «المذهبية»، أي بحزب «إلهي» سلفاً، ينتحل اسم الله، ليُعينه على مقاومة العدو الإسرائيلي الذي يحتل الجنوب وأجزاء من البقاع... جاءوا متأخرين؛ لا! فالآلهة مهما تأخرت تأتي في مواعيدها، لتستعيد كل الشعارات اليسارية، واليمينية، والمذهبية، لتصنع منها توليفة أكثر انتفاخاً، وألصق عضوياً في داخل الجسم اللبناني: دخلت المقاومة الشيعية المزاد العلني الجديد وتربّعت على عرش الطائفة (بعد خطف الإمام الصدر، ونجاحها في حرب الإلغاء مع «أمل» وسيطرتها الأحادية على مفاصل كانتون جديد، هو الشرعية الوحيدة في البلد، بعدما حلّت الميليشيات السابقة تنظيماتها العسكرية ودخلت إلى رحاب الدولة.

] «شرعية» بلا لبنان

شرعية أكبر من كل لبنان: بسلاحها، وعتادها، وجيشها، وقضائها وعدالتها، وأحكامها، ودويلتها. من دويلات مبعثرة الى واحدة مشرّشة، مدعومة مالياً، و«عقيدة»، وتجهيزاً وفكراً... وعنفاً، من إيران. مكتفية بذاتها، متجاوزة شرعية «كانتونها» الى الشرعية اللبنانية، امتداداً الى العالم العربي تحديداً السني.

أكبر من كل المقاومات، أي أكبر من كل شرعياتها مجتمعة: استراتيجية موروثة من طموحات «إسرائيل الكبرى»، بأساليبها، ومراجعاتها، وأهدافها: ليس تدمير الدولة اللبنانية، وجيشها، وقواها الأمنية وبرلمانها، وحكوماتها، أي شرعيتها الشعبية فحسب، بل أيضاً التمدّد الى الأبعد: تفتيت الدول العربية.. الإسلامية (ضمن مخططات إسرائيل) لتتوّج كلها بشرعية جديدة: هي الشرعية الإيرانية (بحلف ضمني مع إسرائيل ومعلن مع النظام المذهبي في سوريا). شرعية السلاح المقاوم (شعار الأسلحة الميليشيويّة والفلسطينية والفصائل الأخرى)، مقدّس، وكل تعرّض له يخدم العدو الإسرائيلي.

فليفعل السلاح إذاً ما يشاء، ولترتكب المقاومة «الأحدث» ما تشاء، وتهدّد مَن تشاء، وتقتل مَن تشاء، وتعلن حربها متى تشاء، من دون إذن أو دستور أو حتى إعلام من الدولة اللبنانية. فشرعيّتها مفروضة على البلد، لكنّها مفروضة من إيران على الحزب. وهكذا تحرّر الجنوب من دون أن يعلم أحد كيف تحرّر، ولا كيف انسحبت إسرائيل؛ المهم: الانتصار. والانتصار هنا عميم للبنان (وهذا طبيعي)، لكن لإيران وسوريا (وهذا غير طبيعي). نقصد أنّ «الحزب حرّر الجنوب من احتلال واحد وسلّمه لاحتلالَين بعثي وفارسي». فيا لهذا التحرير المبين.

وارتد الحزب الى الداخل (ضمن خطة موضوعة مع إنشاء مقاومته)، ليقبض ثمن انتصاره. والثمن لبنان، وإطلاق يده حرّة في أمور القرارات. فالشرعية لمن حرّر. وإذا لم يحرّر، فلمَن انتصر. وإذا لم ينتصر، فلمَن قاوَم، وإذا لم يقاوم، فلمَن جاهد، وإذا لم يجاهد... فللأقوى عسكرياً على الأرض.

صحيح أنّ 14 آذار أرغمت جيش النظام السوري على الانسحاب من لبنان، وهذا إنجاز تاريخي، لكنّ الحزب ورِثَ كلّ موبقات الميليشيات السابقة والوصاية السورية. صار «حديدان وحده في الميدان». وها هو اليوم بعد هزيمته المدوّية في سوريا: ذهب إليها لإنقاذ الأسد مع إيران، فبات يحتاج الى مَن ينقذه: أيّ إسرائيل بتواطؤاتها مع آل الأسد، وروسيا: استنجدت مقاومة «الإرهاب»، والشعب السوري (خلطت بينهما)، بالقوة الروسية، لتعينها على إنقاذ سمعة إيران، والأسد. أنهى دور المقاومة في سوريا.. سريعاً. اندحرت أمام الثوار، وأصحاب الربيع العربي، لكنّها استنجدت، منذ رحيلها، بالمذهبية: أي بضريح السيّدة زينب (ومَن قال لكم أنّ ضريح السيّدة زينب موجود في سوريا وليس في العراق أو في مِصر). المذهبية إذاً. وهنا الدور الأساسي للحزب الإيراني: قتل ما أمكن من سنّة سوريا وتهجيرهم، وتهديم مدنهم وقراهم، وإعلان دمشق ولاية فارسية. 

شرعية الحزب لم تعد «لبنانية» فقط، بل سورية، فالشعب لم يعد موجوداً ويمكن تعويضه بتجنيس مئات ألوف الإيرانيين، في تغييرات ديمغرافية طاولت العراق، وأخيراً الموصل... صار الحزب إذاً «دوراً». دوراً إرهابياً ينشر خلاياه في سوريا والعراق والكويت والبحرين ومِصر. قوّة ميليشيويّة عالمية! لكن وراء كل هذه الضوضاء الدموية والانتهاكات، فالحزب خسر الحرب في سوريا. ذهبت دماء «مقاتليه» من الشباب الشيعي اللبناني هباءً.

دماء مجانيّة تغطي دمشق وإدلب وحلب... وأخيراً لا آخراً جرود عرسال...

] خاسرو الحرب: رابحو معركة

الخاسران الحرب: أي نظام الأسد وإيران (عبر حزبها)، يبحثان عن انتصار «خاص» (بعدما جيّرت كل الانتصارات للأميركيين والجيش العراقي والروسي)، لكي يتمكّنا من احتلال الشريط الحدودي الشرقي الشمالي من لبنان، ليكون أوتوستراداً لكل محاولة تخريبيّة، أو إرهابية (على طريقة المملوك وميشال سماحة ووراءَهما بشار)، وليكون ممراً للقتلَة والمجرمين (على غرار شاكر العبسي في نهر البارد)، أو انقلابية شاملة.

كلّ هذا باسم شرعية مقاومة لم تعد موجودة. وممانعة مرحومة. وجهاد مفقود. والحزب الخاسر في معاركه السورية، يريد بأي ثمن أن يفوز بانتصار، أمام «بيئته» المنكوبة به، وكذلك أمام انتصارات الجيش اللبناني على الإرهاب (مقتل الحزب على المدى الطويل هو الجيش!)، ومع هذا يريد أن يغتصب الحزب «شرعية» رسمية وشعبية لبنانية. كيف؟ بإهداء «انتصاره» الى لبنان. وكيف يهدي انتصاراً لا يملكه أصلاً، ولو ملَكَه لصادرَتْهُ إيران.

ولهذا، فتيار «المستقبل»، أحسن صنعاً ببيانه التوضيحي: لا شرعية لسلاح الحزب، لا شرعية لحروبه السابقة، ولا شرعية لمعاركه الإيرانية – البعثية في جرود عرسال.

هو في مكان، والدولة في مكان آخر. هو في مكان والشرعية دونه في مكان آخر... هو في مكان وأكثرية الشعب اللبناني دونه في مكان آخر... هو في مكان... والجيش اللبناني الوحيد المخوّل بسلاح شرعي يدافع فيه ما أمكنه عمّا تبقّى من لبنان!

شرعيّتك يا حزب إيران لا تأتي من هؤلاء المرتزقة الذين تزرعهم على شاشات تلفزيونك... وصحفك! لأنهم أصلاً بلا شرعية!

أمّا بالنسبة للإرهاب الإعلامي الداعشي الذي أطلقتم نفيره يا حزب النفير الإيراني، فهو ليس غريباً عنكم. وهل في جعبكم و«أفكاركم» (قلت أفكاركم؟ أين)، سوى هذه التهديدات، بكمّ الأفواه، والسكوت عن هزائمكم في سوريا وألوف الضحايا التي قدمتموهم نذائر لأربابكم في إيران... وانتهاككم سيادة لبنان، والشرعية، فهذا الإرهاب ينضح بما ومَن فيه.

إنّه سلاحكم... التخويني، والتشويهي... 

فما أعظم الخوَنة عندما يصِمون الوطنيين بالخيانة!

بضاعتكم الإرهابية ردّت إليكم وعليكم!