محمد علي فرحات

حسناً فعلت الحكومة اللبنانية بامتناعها عن ضم متطرفين في مخيم عين الحلوة إلى المسلحين والمدنيين الذين غادروا جرود عرسال بعد إلحاق الهزيمة بجبهة «النصرة». بذلك تفصل الحكومة بين الملفّين الفلسطيني والسوري في لبنان، وتؤكد مرجعية سفارة فلسطين وقادة الفصائل في أي شأن يتعلق بالمخيمات الفلسطينية، فالاعتراف لجبهة «النصرة» - «القاعدة» بتأثير، وإن محدوداً، في الفلسطينيين، يحطم الهوية الوطنية لهؤلاء كما تحطمت لدى السوريين منذ انهيارهم المزدوج نظاماً وثورة.

إعادة جرود عرسال إلى أهلها إنجاز إيجابي وهو يكتمل بطرد «داعش» من جرود رأس بعلبك والقاع لتتحرر سلسلة لبنان الشرقية من الإرهاب. وقد بدا طبيعياً اختلاف ردود الفعل كما هي حال اللبنانيين في محطات سابقة. ثمة من يصدّق ان مسلحي «حزب الله» أنجزوا التحرير بقرار لبناني، وثمة من يضع الإنجاز في سياق دفاع الحزب عن النظام السوري والامتدادات الإيرانية في المشرق. لكن اللبنانيين اعتادوا اختلاف وجهات النظر. هذا شأنهم دائماً، ويسجّل للجميع التمسُّك بالحد الأدنى للمصلحة اللبنانية، فخصوم «حزب الله»، وهم الغالبية، لم يصلوا إلى حدّ السماح بامتداد «القاعدة» و «داعش» في مناطق لبنانية، مثل امتدادهما في العراق بعد سيطرة الأحزاب الشيعية على الحكم هناك. والذين أيدوا حرب «حزب الله» في الجرود لتحريرها لا يرتضون انتشار إيديولوجيته في المجتمع اللبناني. ثمة وعي وطني مشترك لا يراه المراقبون المتسرّعون، أما المبالغون بانتصارات «حزب الله» إلى حد تخوين منتقديه فيذكّروننا بأنصار المقاومة الفلسطينية و «الجبهة اللبنانية» و «الحركة الوطنية» في النزاعات والحروب التي امتدت منذ إنشاء «فتح لاند» في أقصى جنوب لبنان عام 1969 حتى نهاية الحرب الأهلية عام 1990. هؤلاء تبادلوا التخوين ونسب كل طرف منهم الوطنية لنفسه ونزعها عن الآخر، لكنهم اجتمعوا لاحقاً في برلمان وحكومة وتشاركوا حكم وطن عجز كل منهم عن حكمه وحده.

المنطقة العربية، خصوصاً المشرق، في حال انقسام، بين دعاة حكم الدولة ذات القانون، سواء كانت ديموقراطية أو تقارب الديموقراطية، وبين دعاة حكم شمولي، سواء كان ديكتاتورياً كحكم البعثين العراقي والسوري أو دينياً كالحكم في طهران أو جامعاً الأمرين كالحكم في أنقرة. ويمتد الانقسام إلى المفاضلة بين دول عربية منفتحة على أمم العالم ودول تتسمى بالإسلام السياسي منغلقة على نفسها أو سائرة نحو الانغلاق.

لا يمكن للبنانيين أن ينأوا بأنفسهم عن الانقسام المشرقي، لكنهم يعبّرون عن انحيازهم من خلال سلوكيات الحكم والحكومة لا من خلال شعارات أحزاب مؤدلجة وبنادق مقاتليها خارج الحدود. أهل الحكم في لبنان، على رغم فساد بعضهم وعدوانية البعض الآخر، يدركون جيداً المصالح الجامعة لهم وللشعب اللبناني فيحرصون على علاقات حسنة مع العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة وروسيا والصين، ولا يتبنّون عدائية بعض دول المنطقة تجاه الغرب على رغم معاناتهم من الاحتلال الإسرائيلي المدعوم غربياً ما بين العامين 1978 و2000. وأحدث صورة لاتصال الحكم اللبناني بالعالم هي زيارة رئيس الوزراء سعد الحريري واشنطن مصطحباً وزير الخارجية جبران باسيل وآخرين، للتباحث في شؤون لبنان الشائكة المتعلقة بالعقوبات على «حزب الله» والمسؤولية عن عبء النازحين السوريين.

إنها الخبرة اللبنانية في المحافظة على وطن صعب يتعرّض لضغوط الداخل السوري والعراقي وامتدادات النفوذ الإيراني الكثير الأعداء القليل الأصدقاء.

إنها الخبرة، ولكن بتعب هذه المرة، فالأعباء ثقيلة. وفي صدى حروب الجيران تبحث عن السياسيين الكبار فلا تجد إلا قلة، فالمرحلة لتجّار السياسة وأغنياء الحرب.